من الشعارات التي تقوم عليها الحضارة الغربية شعار الحرية الفردية في شتى الممارسات الاقتصادية والاجتماعية والانتخاب السياسي، هذا من أهم الشعارات التي قامت عليها والتي تدعيها الدول الأوروبية ومن سار في فلكها، إلا أن الواقع يشي بالكثير من مظاهر التنصل من المبادئ التي قامت عليها الدولة الحديثة التي منها الحرية الفردية والشخصية، ومن ذلك ما تناقلته وسائل الإعلام عن منع سائحة منقبة من دخول أحد المتاحف بإيطاليا، وقد تنبه القائمون على المتحف إلى ما قد يعود به مثل هذا التصرف من آثار سلبية على السياحة لديهم، ومن اتهامات تصفهم بالتحيز والعنصرية وهو ما دفعهم إلى المبادرة لمعالجة الأمر بتوبيخ رجل الأمن الذي قام بمنع السائحة، إلا أن الرأي العام الإيطالي وجد في هذا"التوبيخ"حكماً جائراً وإهانة للشعب الإيطالي بأكمله و مهدداً لأمنه! وعند استعراض تاريخ هذه الدول الغربية مع مصادرة حق حرية الممارسات الفردية - على رغم ادعاءاتها على الارتكاز على المبادئ التي تضمن حقوق الإنسان - نجد أنه تاريخ حافل بمثل هذه المواقف، وليس منع هذه السائحة المنقبة سوى فصل منها، فلا تغيب عن ذاكرتنا حوادث استهداف المنقبات لارتدائهن النقاب وتعريض أرواحهن وأعراضهن للخطر الذي ازداد بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر2001 أكثر مما كان عليه قبلها، وهو ما يدل دلالة واضحة على الإخفاق في تطبيق مبادئ الدولة الحديثة التي ينادون بها والتي تعد الحرية الفردية أحد أهم بنودها، إذ يستهدف الإنسان بمجرد اختلافه في اللباس والنظر إليه ليس كرمز لهوية ثقافية بل كشعار يحمل معاني التطرف والإرهاب! ومن تلك المواقف القانون الذي فرضته فرنسا قبل سنوات، الذي يقتضي بمنع لباس ما يمثل الرموز الدينية في المدارس الرسمية، وكان الحجاب على رأس قائمة هذه الرموز، فلم تكن الرموز الدينية للديانات الأخرى ملحوظة مثل الحجاب الذي كان يمثل الوجود الإسلامي المرفوض بالنسبة لهم، والذي يهدد المبادئ العلمانية بحسب زعمهم، على رغم أنه لا يخرج عن إطار الحرية الدينية للفرد التي تدعو إليها هذه المبادئ نظرياً وتخالفها في الواقع العملي! وفي تركيا، باعتبارها إحدى الدول المستلهِمة لهذه المبادئ العلمانيةالتي تُناضل من أجل سريان القانون الذي يمنع المحجبات من دخول الجامعات، على رغم الاتجاهات الإسلامية للحزب الذي يقف على سدة الحكم حالياً، يحمل وجهاً آخر لانتهاك حقوق تلك المحجبات وحرمانهن من التعليم الجامعي لأسباب تتحيز ضدهن بسبب اللباس ولباس الحجاب تحديداً، لا أدري لماذا يكون الاستهداف غالباً لما يمثل الثقافة العربية عموماً والخليجية تحديداً في الدول الغربية، ولا يقف الأمر عند النقاب فحسب بل يتعداه ليشمل الزي الخليجي من دون غيره الذي يجعل من صاحبه عرضة للمساءلة ومحطاً للأنظار، لأنه يحمل في نظرهم إيحاءات إيديولوجية تحيل إلى التيار التكفيري، وإلى أحداث العنف والتفجير التي تفتعل هنا وهناك، ولا ينظر إليه كلباس قومي يمثل هوية ثقافية معينة، وهو لا يخرج عن ذلك على أية حال. وأعتقد أنه لو تبدلت الأدوار ومنعت سائحة غربية من دخول متحف ما أو مرفق سياحي في دولة عربية بسبب ابتذال ملابسها، وعدم ملاءمتها للمناخ الاجتماعي لانتهج الرأي العام الغربي أسلوباً أكثر حدة وتطرفاً في تناول المسألة، ولتجاوز جانبها الاجتماعي إلى مسألة تمس حقوق الإنسان المهدرة ? بحسب وجهة نظرهم - في البلاد العربية، ولعل تفاعل الإعلام الغربي مع رجل الأمن الذي جرى توبيخه وإدانة نقاب المرأة، على رغم أنه ممارسة شخصية يعطي دلالة واضحة على النهج المتطرف الذي يسلكه هذا الإعلام والذي يبرر تصرفاته مهما كانت متطرفة وغير مقبولة، بحسب ما يملونه على أنفسهم من مبادئ تدعي المدنية والحياد والعدالة، ويملي على الرأي العام في تلك الدول أفكاراً لا تمت بصلة لواقع حقوق الإنسان في الدول العربية، ما يزيد في فجوة التعامل معه وفي تكريس الصورة المغلوطة التي تصور بلادنا معقلاً للإرهاب والإرهابيين! فالغرب على رغم تشدقه بأسس الدول الحديثة والمبادئ العلمانية، إلا أنه لا يزال ينظر لمسألة النقاب بغير حياد ويعتبرها - على رغم أنها ممارسة فردية شخصية ? على أنها إخلال بالأمن تارة وبالمبادئ العلمانية التي ترفض الرموز الدينية تارة أخرى، على رغم أنه لا تعني - أولاً وأخيراً - سوى زي قومي ذي دلالات اجتماعية وثقافيةحضارية... وهكذا نجد أن الدول الغربية لا تقف عند الحدود التي وضعتها، وعلى رغم ادعاءاتها بأهمية المحافظة على حقوق الإنسان نجد أنها تفشل في اختبارات كثيرة بهذا الصدد، لتتحول بالنسبة لها إلى مجرد شعارات لا يعوزها التطبيق، وممارسات تفتقر للعدالة وتكرس العنصرية! [email protected]