قد نخلو بأنفسنا في بعض الأحيان وتراودنا أفكار جمة يصعب حصرها، وتشتت أذهاننا بين التنفيذ والرفض لما يدور بها، إذا كان مخالفاً للعادات والعرف، مع علمنا بأنه قد تمر بنا التجارب ونقوم ببعض التصرفات من دون علم أحد، ونحتفظ بتلك الخصوصية خوفا ًمن الناس لا خوفاً من عالم السر وما أخفى، وتمر بنا الأيام ونعتاد على أخطائنا وما يردعنا عنها سوى الخوف أيضاً من الناس، فتصبح أهدافنا ومخاوفنا في هذه الحياة موجهة لمن حولنا فحسب، تاركين نظرة أعمق وأدق من تلك النظرة السطحية التي تنفي شخصياتنا مع مرور الأيام. فعندما يرتكب الخطأ ويتمسك به ويصر أقوى الإصرار عليه، ستصبح أي جريمة تقع في المجتمع هينة من وجهة نظره، وسيكون كل ما يراه مؤلماً ومهيناً وسهل الإقدام عليه بالنسبة له، لأن الرقابة الذاتية معدومة في داخله، ما يدفعه للإقدام على أي سلوك من دون المبالاة بعواقبه سوى أن الناس ووجودهم ورد فعلهم هي التي قد تهدئه قليلاً وتجعله يفكر ويتراجع عن تصرفه. فالناس ليسوا بدائمين لنا، وما يدوم هو المعدن النقي الطاهر الذي بداخلنا والنفس اللوامة، ومن يكون رقيبه الأعلى الناس سيفقد قيمته أمامهم وأمام نفسه، ويستحيل أن يدرك رضاءهم فلا يسعد بدنيا ولا آخرة، فما أعماله إلا مجرد هباء منثور لن يجد من يقدره. وهذا ما يسمى باختلال الرقابة الذاتية الركيزة الأساسية التي يجب أن نتسلح بها، لأنها حصانة كاملة في حياتنا تتكون منها شخصياتنا وعمقها ومبادئها. ولكن، لماذا لا يهمنا سوى نظرة الناس؟ سؤال يطرحه كل عاقل وفطن على نفسه، لماذا نحكم تصرفاتنا بالأشخاص فقط ونغفل أن هناك من هو أهم وأعظم من ذلك، لو وضع الإنسان الله نصب عينيه فلن يجرؤ على فعل مالا يرضيه، يجب أن يكون للإنسان شخصية مستقلة يتميز بها عن غيره، تشعره بأن التقليد الأعمى يقلل من شأنه ويقضي على مبادئه، وقناعة ذاتية تنكر عليه الخطأ وتدفعه إلى تركه ولو كان مجرد تفكير أو خاطرة، وإن لم يكن ذلك فلن يستطيع السيطرة على نفسه وضبط تصرفاته، وأجد دائماً أعظم باعث على مراقبة النفس هو"الحياء من الله"، الذي يحدد القوة الذاتية في شخصنا، وهو أعظم درجات الإيمان. فلو تأملنا في أحوالنا وأصبح لكل شخص رقابة ذاتية نابعة من داخله، وقناعة ويقين تام بان مراقبة النفس والاتزان في الكلام وتحكيم التصرفات واجبة، ولو غرسنا في أنفسنا النفس اللوامة التي تنهانا عن كل ما يضرها ويسيء لها، ونظرنا إلى الحياة والى أنفسنا بنظرة أعمق وأوسع، لعرفنا كم ما نحن عليه من غفلة وجهل، ولكان الواقع للشخص أو المجتمع أفضل، وأصبح تكرار الأخطاء أقل، لأنه سيترك الخطأ من أجل نفسه بنية قوية ويقين ثابت بأن الله سيعوضه تلك الرغبة المسيطرة على فكره والملمة بعقله وقلبه، ولو عاش ببيداء خالية لم تجرئه أخلاقه على ارتكاب الخطأ. مادام هناك جوانب خيرة في الإنسان فإنه يحتاج دائماً إلى تحصين نفسه، وملازمة كل من سيدفعه لتقوية إيمانه وتطوير ذاته، وألا يجعل من نفسه موضعاَ للإهانة فتسلب كرامته وهيبته لأتفه الأسباب، لأن الناس غالباً لا تنفع أحد في الأوقات الحرجة، بل كثيراً ما تحاول أن تتصيد الأخطاء كي تكون حادثته مادة تثرثر بها ووسيلة تفشي بها عما بداخلها من فراغ أو قهر تجاه ذات الإنسان المخطئة، وحتى لو لم يكن بينه وبين الناس أمر يذكر فيجب أن يكون دائماً بكامل قواه العقلية عند أي تصرف من أجل نفسه. بهذا الشكل يكون الإنسان قد كوّن لنفسه حصانة ذاتية وشخصية قوية بارعة في تكوين علاقاتها وتيسير أمورها والنجاة بنفسها من أي هلاك كان ظاهراً أو باطناً. قد نحتاج للحظات ولأيام لمحاسبة أنفسنا واسترجاع ذكرياتنا، وقد تكون تلك اللحظات من صالحنا حتى نستدرك ما فاتنا ونعوض ما هو آتٍ. ولكن... هل كان لتلك اللحظات نصيب من حياتنا؟