قرأت لأحد الأساتذة الفضلاء بحثاً مختصراً في حكم استمطار السحب انتهى فيه إلى الحكم بتحريمه، وقبل أن أناقش أدلته التي بنى عليها حكمه ألخص بيان المراد باستمطار السحب من الكاتب نفسه"حتى لا يقال: إني لم أفهم كلامه على وجهه. فالاستمطار كما يحكيه عن المختصين بالموضوع يقصد به أحد أمرين، الأول: تسريع هطول الأمطار من سحب معينة، والثاني: زيادة إدرار السحابة عما يمكن أن تدره بشكل طبيعي. ومما استدل به للقول بحرمة الاستمطار"أن الله قد اختص بإنزال المطر بجميع أطواره، وأنه هو المنفرد بذلك، وهو الذي يعلم وقت نزوله ومكانه، ومقداره إذا نزل، وهو الذي يرسل الرياح، وهو الذي يشكل السحب، ويسوقها حيث يشاء، فلا مدخل لأي مخلوق كان أن يؤثر في هذه الحقائق"، ثم ذكر آيات في هذا الشأن. وربما نسي الأستاذ الفاضل - حين فهم هذه الآيات على نحو أبعد من عمومها الصحيح - أن من الملائكة من هو موكّل بالسحاب، وأن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهم من أئمة التفسير قد فسّروا قوله تعالى:"فالزاجرات زجراً"بالملائكة التي تسوق السحاب وتزجره، وهذا يعني أن تفرّد المولى سبحانه في أمر إنزال المطر ليس عاماً في جميع أطواره كما نص على ذلك الكاتب، وإلا لم يكن للملائكة الموكلين بالسحاب والمطر عمل ينسب إليهم في هذا الشأن! واستحضار هذه الحقيقة في هذا السياق يجعلنا نأخذ هذه الآيات بقراءة أخرى على خلاف ما فهمها أخي الكاتب، وهي أن تفرده عز وجل في إنزال الغيث هو في التقدير والمشيئة، وخلق أسباب المطر ومادته، وتصرفه في مقدار ما ينزل منه، وإمساكه، وسوقه إلى بلادٍ من دون أخرى، وهذه الحقيقة لا يجادل فيها مسلم، والاستمطار لا يعارض هذا"لأنه مجرد سبب، كما أن هبوب الرياح الرطبة سبب مهيئ لنشوء السحب. وإذا فسدت المقدمات فسدت - تبعاً لذلك - نتائجها، ومن هنا فقد أبعد أخي الكاتب حين حكم على محاولات الاستمطار بأن فيها جرأة وتكذيب لكلام الله، لتوهمه أن فيها منازعة لله في ما اختص به! وما رأيه إذاً في قول الكيماويين بأن اتحاد ذرتي الهيدروجين مع ذرة الأوكسجين ينتج قطرة ماء! وكلنا يدرك أن هذا ليس من قبيل خلق الماء، وإنما هو تأليف بين ذراته المكونة له، وإنما التفرد هنا في تكوين ذرتي الهيدروجين والأوكسجين وخلقهما من العدم. وغاية ما يفعله المستمطرون يكاد ينحصر في هذه الصور الثلاث - كما ذكرها الكاتب نفسه - الأولى: رش السحب الركامية بواسطة الطائرات، برذاذ الماء"ليعمل على زيادة تشبع الهواء، وسرعة تكثف بخار الماء، لينزل المطر، والثانية: قذف بلورات من الثلج الجاف ثاني أكسيد الكربون المتجمد، بواسطة الطائرات في منطقة فوق السحب"لتؤدي إلى خفض درجة حرارة الهواء، ومن ثم التحام قطرات الماء الموجودة في السحب ونزولها كما في حالة المطر الطبيعي، والثالثة: رش مسحوق إيود الفضة بواسطة الطائرات، أو قذفه في تيارات هوائية صاعدة لمناطق وجود السحب، ويعد إيود الفضة من أجود نويات التكاثف الصلبة التي تعمل على تجميع جزيئات الماء، وإسقاطها أمطاراً غزيرة على الأرض. وإذا تأملت هذه الصور وجدتها لا تعدو سبباً من الأسباب المهيجة لنزول المطر، ووجود السبب لا يلزم منه وجود المسبّب، فقد يوجد وقد يتخلف"لأن وجود ذلك وعدمه تنفرد به مشيئة الله المتفرد بالخلق والتدبير والتقدير، وعلى هذا فمباشرة السبب بعيدة كل البعد عن محاكاة الله في التدبير والخلق. ويمكن أن يقال: إن الاستمطار يشبه إلى حد كبير إجهاض الجنين ببعض الأدوية. فكما أن الجنين ما سقط بدواء الإجهاض إلا بإذن الله، فكذلك المطر لم ينزل بمحاولات الاستمطار إلا بإذن الله، ولو شاء ربك ما فعلوه. وأما ما ذكره من الوسائل الشرعية لإنزال المطر فلا شك فيها، ومحاولات الاستمطار لا تتضمن دعوة للاستخفاف بالوسائل الشرعية من دعاء واستغفار وتوبة. وأما التحدي المذكور في قوله تعالى:"أَفَرَأَيتُمُ الماء الَّذِي تَشرَبُونَ أَأَنتُم أَنزَلتُمُوهُ مِنَ المُزنِ أَم نَحنُ المُنزِلُونَ"، فلا يزال قائماً حتى بعد نجاح الاستمطار"لأنه كثيراً ما تبوء محاولات الاستمطار بالفشل"لتدل دلالة ظاهرة على أن كل هذه الأسباب موقوفة النفاذ على مشيئة الله وتقديره وتدبيره. وليس المقصود مما تقدم هو إظهار قولٍ على قولٍ في هذه المسألة بعينها، وإنما المقصود هو لفت نظر الأستاذ الكريم وغيره إلى ضرورة إعادة فهم هذه الآيات على الوجه الذي لا يقع به تعارض مع مستجدات الواقع، والله أعلم. * أكاديمي في الشريعة. [email protected]