البداوة هي نمط معيشة يعتمد على التنقل والترحال، امتهنه سكان الصحاري منذ آلاف السنين، ويمكن التعرف على البدوي من خلال الأمتعة القليلة والتجهيزات الخفيفة التي يصطحبها معه في تجواله، كما أن هذه الأمتعة تحدد هويته، فهي تضع الحدود لما يمكنه القيام به، ونقترب أكثر من فهم البدوي عندما نتنبه للأشياء الكثيرة التي تركها خلفه واستغنى عنها. فالمدينة بكل ما تحتويه من سبل الراحة والرفاه بطرقاتها المعبدة وبيوتها المثبتة بالأرض وأشجارها التي تتشبث عروقها بأحشاء الأرض لا تعني للبدوي شيئاً، بالنسبة له الاستقرار في مكان واحد هو مجازفة لا يستطيع تحملها... لهذا السبب ظل حراً طليقاً يذهب إلى حيث يريد وفي الوقت الذي يختاره، المدنية والحضارة مجرد نمط آخر للحياة لا يعني للبدوي شيئاً خلال آلاف السنين من التنقل والترحال، التغير الوحيد الذي طرأ على هذا النمط من المعيشة هو في التطور البسيط في نوعية الأمتعة والتجهيزات التي يصطحبها البدوي معه في ترحاله. منذ زمن بعيد وعلماء الاجتماع يرون في البداوة الخطر الدائم على المدنية والحضارة، من أيام الفراعنة وزيارات الهكسوس غير الودية لهم، وصولاً للدول الحديثة، المعضلة الحقيقية للتنمية والاستقرار هي في توطين البادية، أو بعبارة أخرى توريط البدو في الصناعة أو الزراعة أو غيرها من المهن التي تقوم عليها المدنية أو الحضارة في مفهومها السائد حتى الآن على الأقل، في خضم الحضارة الرقمية الهائلة التي انطلقت كالتيار الهادر الذي لا يقف في وجهه شيء، بدأت ظاهرة جديدة ومفاجئة بالتشكل بصورة تدريجية ولكن بإصرار كبير وهي ظاهرة عودة البدو الرحل، فالحضارة المدنية أعادت إنتاج البداوة ونمط الترحال والتجوال والتعصب الذي كان من الملامح الأساسية لحياة البداوة. في بداية السبعينيات من القرن الماضي تنبأ عالم الاتصال الكندي بظهور سلالة جديدة من البدو الرحل الذين يجوبون الأراضي بسرعة كبيرة، مستفيدين ومدفوعين بالخدمات والتجهيزات الكبيرة على الطرق التي توفر بديلاً مثالياً لنمط الاستقرار، بعد هذه النبوءة بعشر سنوات، أي عام 1980 أعاد عالم الاقتصاد الفرنسي جاك أتالي - الذي عمل مستشاراً للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران - استخدام العبارة نفسها متوقعاً أن تشهد السنوات المقبلة انصراف الأغنياء وميسوري الحال إلى التجوال بطائراتهم النفاثة حول العالم بحثاً عن المتعة والفرص الجديدة، فيما تندفع أعداد أكبر من الفقراء إلى الهجرة والترحال بحثاً عن فرص العمل وتوفير لقمة العيش! الأمر المهم هنا هو أن كلتا الفئتين اقتلعتا جذورهما من الأرض وألغتا ارتباطهما بالمكان واختارتا الترحال ونمط البداوة أسلوباً جديداً للحياة، بعد عشر سنوات ألف نوسيغوما كيوموتو وديفيد مانرز كتابهما"البدوي الرقمي"مسهبين في الحديث عن عودة البداوة كنمط معيشة تدفع إليه وتحرض عليه الثورة الهائلة في الاتصالات الرقمية. تماماً كما كان البدوي يتنقل بين الواحات بحثاً عن الماء، فإن السلالة الجديدة من البدو الرقميين أصبحوا يجوبون الأراضي الواقعية والافتراضية، مصطحبين معهم تجهيزاتهم الخفيفة من الآلات المعقدة التي تبقيهم على اتصال دائم بالعالم الذي يختارونه، أصبحت المقاهي والأماكن العامة التي توفر"الواي فاي"أو خدمات الاتصال اللاسلكية هي الواحات الجديدة التي يقصدها البدو الرقميون، كثير من العلماء والهيئات المتخصصة تفرغوا للبحث في آثار الثورة الالكترونية على الفرد وعلى المجتمع بشكل عام، ولكن لم يتوقع أحد أن تسير الأمور بهذه الوتيرة المتسارعة وتصل إلى ما وصلت إليه. حتى بعد انتشار الهواتف النقالة لم يكن أحد يتوقع لها تأثيرات تفوق إمكاناتها المحدودة بنقل الصوت والرسائل المكتوبة. ولكن بعد ظهور"البلاك بيري"في عام 1999 وتدشين عصر الانترنت المحمول والرسائل الالكترونية المتنقلة بدأ فجر جديد في عالم الاتصالات وفي الحضارة الإنسانية، في الصيف الماضي دشنت شركة أبل جهازها الجديد"أي فون"الذي يتيح دخول أسهل للإنترنت معلنة بداية مرحلة جديدة في عصر الأجهزة التفاعلية المحمولة. في الوقت الراهن هناك أكثر من 3،3 بليون مشترك لخدمات الهاتف النقال. ومع انفتاح هذه الأجهزة على الحاسب الآلي والانترنت من خلال حلول أكثر أماناً وأقل تعقيداً فإن التغيرات المتوقعة على الأفراد وعلى المجتمعات تبدو كبيرة جداً. إمكانات الاتصال المتنقلة الهائلة وانتفاء الحاجة للوصلات والأسلاك النحاسية لا تعني فقط تحرير هذه الأجهزة وفك قيودها، بل حررت الإنسان وغيّرت إلى الأبد علاقته بالمكان والزمان وحتى بالأفراد الآخرين. للمرة الأولى في الحضارة الإنسانية يصحو الإنسان على واقع جديد يكتشف به أنه لم يعد مقيداً بمكان واحد وأن باستطاعته أن يكسب لقمة عيشه من دون الارتباط بمكان محدد لا يستطيع مفارقته، حتى الحكومات استيقظت ذات صباح لتكتشف أن موجات الأثير هي أغلى أصولها وأكثرها عوائد. في الماضي كان الجديد هو إمكان العمل من المنزل أو من أي مكان آخر، والآن تغيرت الصورة تماماً، فأصبح بمقدور الإنسان مزاولة مهنته أثناء تنقله وترحاله تماماً كما كان يصنع البدوي. لم يعد مهماً أن تملك عنواناً دائماً أو مكاناً تستقبل فيه العملاء. بل إن بعض المهن مثل البرمجة والهندسة المعمارية والكتابة وغيرها أصبحت فرصها في النجاح والازدهار أكبر باعتماد نمط التجوال والترحال أي أن العودة إلى حياة البداوة أصبح أكثر ملاءمة لها... ونمط البداوة الذي يعاد إنتاجه لا يجب أن يخلط بظاهرة الهجرة أو السياحة. لأن الإنسان يستطيع الهجرة أو السفر من دون أن يضطر لأن يعيش حياة البداوة أو الترحال، البداوة الرقمية التي بدأت تتشكل لا تقتصر على السفر وتغيير العلاقة بالمكان، بل باستطاعة مراهق صغير في قرية نائية أن يذهب إلى أي مكان من دون أن يغادر غرفته، وأن يقطع المسافات في زمن افتراضي يختلف كثيراً عن حسابات الزمن الواقعي، وعلاقته مع الآخرين لم تعد تسيطر عليها ظروف الزمان والمكان. وكما أن البداوة بطبيعتها تشجع على التعصب وتغذيته من خلال تحريضها للأفراد المترابطين أصلاً كأفراد العائلة مثلاً على الاقتراب من بعضهم أكثر على حساب التواصل والانفتاح على الجماعات الأخرى داخل المجتمع. وهذا ما يحدث فعلاً ونجد أعراضه واضحة على البدوي الرقمي، إذ إن الاتصال الافتراضي يدعم ويزيد من الروابط الموجودة أصلاً على حساب التنوع والتعدد وعلى حساب الدور الحيوي الذي تصنعه المصادفة في مد الجسور وردم الهوة بين الجماعات المتباينة داخل المجتمع. وكما استطاع المجتمع البدوي صناعة التعصب وتغذيته داخل القبيلة لدرجة أصبح بها التعصب من الملامح الرئيسة لحياة البداوة، فإن الاتصالات الرقمية المتنقلة بإمكاناتها الهائلة في طريقها لإعادة إنتاج التعصب في المجتمعات المتحضرة. غرف الشات والساحات الافتراضية أصبحت من الأماكن المفضلة ليسمع الإنسان صدى صوته وأفكاره وتعصبه وهو يعود عليه. البدوي الرقمي الذي أنتجته ثورة الاتصالات الرقمية هو أقرب إلى رجل الفضاء من البدوي التقليدي الذي يجوب الصحاري. فرجل الفضاء لا يترك شيئاً للمصادفة، فهو يتنقل ومعه كل ما يحتاج إليه حتى الأكسجين يحمله معه وهو محدود في حركته وحريته بما تتيحه له هذه الأجهزة والأمتعة التي يعتمد عليها. وهذه هي حال البدوي الرقمي الذي يتنقل بأجهزته الخفيفة بين الواحات التي توفر الخدمة لمعداته وأجهزته، متحرراً من الارتباط بمكان واحد من أجل لقمة العيش، وبدلاً من دفع إيجار لمكتب يمارس فيه نشاطه فهو يتنقل بين المقاهي والأماكن العامة التي توفر له خدمات الاتصال اللاسلكي مكتفياً بدفع ثمن القهوة والشطائر الخفيفة. عندما يستطيع المراهق أو المراهقة الإبحار في العالم الافتراضي والوصول إلى أي مكان يريدان والاتصال بمن يريدان وتخطي حواجز الزمان والمكان من دون أن يشعر بهما والدهما ووالدتهما في الغرفة المجاورة فنحن في زمن جديد. عندما يستطيع الإنسان أن يزاول عمله من أي مكان حتى أثناء تنقله وسفره فنحن في زمن جديد، فلا الارتباط بمكان واحد أصبح يقيد الحرية، ولا التجوال والترحال الدائمان أصبحا عائقاً أمام العمل والإنتاج الجاد، نحن نعيش في زمن تبدلت فيه العلاقة مع المكان والزمان ومع الآخرين إلى شيء جديد ومختلف لم نعرفه من قبل. [email protected]