نخلص مما تقدم في الحلقتين السابقتين حول"الحل الأمثل لظاهرة العنوسة هو التعدد"إلى أن الجماع ليس شرطاً للعدل بين النساء. وبناء على ذلك اتفق الأئمة الأربعة على أن العدل محصور في المأكل، والملبس، والمسكن، والمبيت، وكل هذه الأمور مادية ملموسة يمكن للرجل أن يحققها، فإذا كانت لديه الاستطاعة المادية على ذلك وجب عليه التعدد. وتكون الزوجة الواحدة للضرورة فقط، أي في حال فقر الزوج وعدم استطاعته تأمين مسكن لكل زوجة أو الإخلال بأحد شروط التعدد. وإذا عدنا إلى الآية الكريمة الآنفة الذكر نرى أنها بدأت بالتعدد، والأصل يقدم على الفرع في الذكر، فيكون الأصل في الزواج التعدد، والواحدة هي المستثناة من الأصل، فهي التي تحتاج إلى دليل. فإن الانسان إذا عدد الزوجات يكون قد سار على الأصل، فلا يُسأل الرجل لِمَ تريد التعدد؟ بل يُسأل الذي ترك التعدد ولديه الاستعداد المادي. من الناس من يتعلل بالفقر، ولهذا رد عليهم الله تعالى بقوله:"إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله". وقد حثّ الرسول صلى الله عليه وسلم على الزواج على الفقر في حديثه عندما جاءه رجل يشكو الفقر، فقال:"تزوج"، وكان كلما يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مرة يشكو الفقر، ينصحه الرسول صلى الله عليه وسلم بالزواج حتى أكمل النصاب، فكأنما فتحت عليه أبواب السماء بالرزق. أفتى الكثير من العلماء بأن إباحة التعدد مشروطة بشرط العدل، وأن الله سبحانه وتعالى أخبر بأن العدل غير مستطاع، فهذه أمارة تحريمه عندهم! إذ قصروا استدلالهم على بعض الآية وتركوا بقيتها:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، وتركوا ما فيها:"فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة"، فكانوا كالذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض! ثم ذهبوا يتلاعبون بالألفاظ، وببعض القواعد الأصولية، فسموا تعدد الزوجات مباحاً، وأن لولي الأمر أن يقيد بعض المباحات بما يرى من القيود للمصلحة، فما كان تعدد الزوجات مما يُطلق عليه لفظ المباح بالمعنى العلمي الدقيق، أي المسكوت عنه، الذي لم يرد نص بتحليله أو تحريمه، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أحلّ الله فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو". إن القرآن الكريم نصّ صراحة على تحليله، بل جاء إحلاله بصيغة الأمر، التي أصلها للوجوب:"فانكحوا ما طاب لكم من النساء". وإنما انصرف فيها الأمر من الوجوب إلى التحليل بقوله عز وجل"ما طاب لكم". وإن التعلل بأن الرجل لا يمكنه العدل انما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم:"اللهم هذا قسمي في ما ملكتُ، ولا تلمني في ما ملكتَ ولا أملك". فالحديث صريح وواضح، فطالما أن عدل الميل القلبي مستثنى إذاً فالتعدد واجب لا سنة. كما أفتى بعضهم بأن الزواج بأكثر من واحدة لم يشرع إلا لمن كان تحت ولايته يتامى وخاف عدم العدل فيهم، فانه يتزوج الأم أو احدى البنات. ويستدلون بقوله تعالى:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم". وهذا قول باطل، ومعنى الآية الكريمة أنه إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى سواها فإنهن كثيرات ولم يضيق الله عليه، وهذا حكم مطلق وليس خاصاً في اليتامى كما يفهمه البعض. لو سُئلت الفتاة، أو وضِعَت أمام طريقين، أولهما أن يكون لها زوج على الورق لا تعلم عن حياته شيئاً، أين يذهب، ومع من ينام من النساء بما يحملن من الأمراض المعدية الفتاكة، يُبذَِّر أمواله على خليلاته من دون حس ووعي، بحجة أنه يريد أن يغير طعم حياته الجنسية، وربما كان له أولاد غير شرعيين، وكبر احدهم، وطلب يد ابنته بعد وفاة الأب، أو من دون علمه للزواج منها، وهي لا تعلم من هو ومن أبوه، فماذا يحصل لو تزوجا، وأنجبا أولاداً وأحفاداً؟ والطريق الآخر الشرعي السليم المستقيم، أن يكون لها زوج متزوج بأخرى، تعلم من هي، وكم ينفق عليها، وكم ليلة يبيت عندها، ومن هم أولاد زوجها، وعليه المساواة بينهما في الحقوق. ولا شك في أنها ستختار الطريق الثاني، الشرعي، السليم، الحكيم، المنطقي، لا سيما خوفاً على نفسها من الأمراض، وخوفاً على أولادها من تشردهم بعد هجران الأب لهم ليلحق بعشيقته. وهل من الممكن للرجل الذي يعاشر الخليلة في صباها أن يبقى ويستمر على حبه الشهواني لها إلى كهولتها، بعد أن تتقدم بها السنون، ويذوي جسدها ونضارتها فلا تنافسها من تستأثر بعشيقها؟ وما الحقوق التي تستطيع أن تلزمه بها بعد هجرانه لها؟ ومثل هذا الحب الذي يزعم وينادي به أهله هو من ضرب الخيال، والقصد منه قضاء الشهوات الغريزية العابثة ليس إلا. بينما في المقابل عندما تكون من نال وطره منها زوجته تساكنه شرعاً تحت سقف واحد يراها صباح مساء، ملزم بالإنفاق عليها، وترعى له أولاده وتخدمه، ينظر إليها نظرة أخرى فيها الحب الحقيقي، الناتج من الالفة، والمودة، والوئام، والرحمة، كما قال سبحانه وتعالى"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقومٍ يتفكَّرون". إن مجمل القول في التعدد إنه رخصة ضرورية لحياة الأفراد والجماعة، وفي حالات كثيرة لم ولن تجد البشرية حلاً أفضل منه. * باحث في الشؤون الإسلامية