فاطمة التي كانت يوماً ما أماً حنوناً أصيبت بفقد أبنائها صغاراً، وهي اليوم تعيش خريفها الثمانيني على فراش أبيض من دون أن تجد لها ذرية تساندها في هذا الوقت الذي يتمنى فيه الإنسان أن يكون محفوفاً بأبنائه، لتفيض روحه وهو على ثقة بأنه في أيد أمينة، وبأن له ذكراً سيبقى في الدنيا، وبأن هناك من سيلهج لسانه له بالدعاء بعد وفاته جيلاً تلو جيل في أثر يبقى إلى ما شاء الله... ولكنها تعلم أنها ستفارق الحياة من دون أن تترك فيها امتداداً يبقى لها بعد وفاتها عدا ما عرفت به من خلق سام بين أقربائها وأبنائها الذين لم تلدهم، إلا أن ذلك لا يغني بحال عن فلذات الأكباد الذين يمثلون الوجود المادي والمعنوي للإنسان بعد رحيله عن الدنيا. الذرية نعمة عظيمة من الله عز وجل، نعمة تنتظر ممن أنعم الله بها عليهم أن يترجموا امتنانهم شكراً لربهم وصيانة لها، إلا أن صخب الحياة قد ينسي البعض نداء الطفولة، وينسي حاجة الأطفال إلى المحبة والحنان اللذين لا يمكنهم النمو السوي إلا بعد أن ينالوهما من والديهم، فهناك نماذج من الآباء لا تقدر الأطفال ولا تعرف حقوقهم وعِظم أمانتهم، وتدلل على ذلك الدراسات والإحصاءات التي تطالعنا بين فترة وأخرى بحجم الإساءة التي يتعرض لها الأطفال، ومنها الإحصاء الذي نشر في هذه الصحيفة الغراء بتاريخ 17-5- 2008، الذي يفيد بتعرض 21 في المئة من الأطفال السعوديين للإيذاء بشكل دائم، وهي نسبة كبيرة إذا أخذنا في الاعتبار أن الشخص الذي يتعرض للإيذاء سيعود لممارسته على غيره عندما يتاح له ذلك، وهذا يعني استفحال الداء بشكل مستمر، ما يؤدي لإنتاج مزيد من غير الأسوياء! وإزاء ذلك نحتاج إلى زيادة الوعي بطريقة التعامل المثلى مع الأطفال وتعزيز ما يقوي شخصياتهم ويضمن لهم أن يعيشوا ذواتهم بعفوية واتزان، متحررين من العقد وما يقيد حرية الفكر والإبداع وفق الفطرة السوية، فتعامل المحيطين بالطفل هو ما يحدد شخصياتهم المستقبلية ويرسم ملامحها التي يصعب تغييرها لاحقاً، فشخصية الطفل تتشكل منذ بدايات طفولته، فإذا اعتادت على العنف والإيذاء والازدراء فإنها تتشكل على هذا النحو حتى يصبح سمتها ويصعب تغييرها في ما بعد، فكثير من الآباء يغفلون عن فداحة الإيذاء النفسي، وازدراء الطفل، ويعتبرونهما من الأمور العادية التي لا تأثير لها ولا خطر فيها بحكم صغر سنهم، فتجدهم لا ينادون الطفل باسمه بل بالألفاظ النابية، ويكون الأصل في تعاملهم مبنياًَ على الضرب والحرمان، وهو ما يترك في النفس ألماً أكبر من ألم الجسد الذي قد يشفى مع الأيام. وهناك نماذج كثيرة من الآباء الذين يغلب عليهم الإهمال وتسليم مسؤولية الأطفال كاملة للخدم والسائقين أو الأم التي لا تستطيع القيام بكامل المسؤولية منفردة، أو يغرقونهم في التدليل الزائد الذي يؤدي تأثيره السيئ على الطفل إلى تكوين شخصية هشة غير سوية لا تستطيع مواجهة الحياة. فالأطفال مسؤولية عظيمة تحتاج إلى أسلوب يقوم على الإرشاد والتوجيه ولا يغفل الاحترام بحال، ويحاط ذلك بمشاعر المحبة والحنان، لأن الطفل لا يمكنه النمو بصورة طبيعية من دون أن يشعر بمبادلته المحبة مع من حوله، وذلك بالنسبة إليه أهم من الرعاية المادية التي أصبحت تعني عند كثيرين المفهوم الوحيد لحقوق الطفل. وربما يُعزى سبب تقصير بعض الآباء في القيام بحقوق أطفالهم إلى الانشغال عنهم بتوفير المتطلبات المادية وتركهم لتربية التلفزيون والخادمات والشوارع، الأمر الذي يكوّن لديهم سلوكيات سلبية تتراكم مع الزمن حتى يستعصي علاجها، وهي بطبيعة الحال تثير غضب من حولهم، فلا يستطيعون إزاء ذلك إلا توجيه إساءة عشوائية للتنفيس عن غضبهم من دون البحث عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء لجوء الأطفال لهذه السلوكيات، ومن دون إيجاد إمكانات معالجتها، واستخدام الحلول الموقتة التي تفتقر للمتابعة والمواظبة واستقراء النتائج. وعلى ما تحتاجه نعمة الأطفال من رعاية واهتمام يبقى على الآباء عدم إضاعة فرصة لا تعوض لتربية أبنائهم باعتبارهم ثروة بشرية تتعين تنميتها، فالإنسان هو الاستثمار الأنجح دائماً، وتكون نسبة النجاح أكبر إذا أحسن الأبوان تشكيل شخصيات أبنائهم من البداية وصياغتها بالصورة التي يطمحون إليها، والتي هي بلا شك صورة مشرقة لمستقبل مشرق، وعندها سيجني الوالدان الثمار. [email protected]