حوّل الشاعر عبدالعزيز سعود البابطين، انتماءه إلى المشهد الإبداعي العربي، إلى فعل ثقافي ممتد، يسعى إلى سد فراغات العمل الثقافي، أو التكامل معه، من خلال مؤسسات عدة، تؤصل للشعر والترجمة والتأريخ المعرفي، منطلقاً في عمله من حسه العربي، ومن رغبته في الحفاظ على ذاكرة الثقافة العربية، حية نابضة بحياة أدبائها وكتابها. يرى البابطين أن قصيدة النثر لا يمكن إطلاق صفة الشعر عليها، ويعترف بوجود قصور من جانب رجال المال العرب في دعم الأعمال الثقافية، ويعتبر وجود أرضية ثقافية مشتركة بين الشعوب ضرورة لحوار الحضارات. حول أنشطة مؤسساته الثقافية المختلفة، ورؤاه المستقبلية لها، والسبب في تكوين كل منها، ومواضيع ثقافية أخرى، حاورته"الحياة". هنا نص الحوار: إلى أي مدى تؤمن بأن الثقافة تصلح ما أفسدته السياسة؟ وما النتائج التي تبينتها خلال لقائك بالشعراء والمثقفين العراقيينبالكويت؟ - هذه مقولة صحيحة وإيماني بها كبير، ولدينا من التجارب الناجحة ما يثبت هذه الحقيقة، والعلاقة بين الثقافة والسياسة لم تكن سيئة إلا في السنوات الأخيرة، حين بدأ المثقف ينأى عن مركز القرار، سواء بإرادته أو رغماً عنه، لذلك طالبت في شتى المناسبات بأن تكون وزارات الثقافة من الوزارات السيادية، لأن أي حضارة تقوم على العمل السياسي من دون الثقافي، تعد حضارة غير مكتملة، وعلى الصعيد العملي جسدنا مقولة أن الثقافة بإمكانها أن تصلح ما أفسدته السياسة، من خلال إقامة دورات وندوات مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، بين شتى الدول، حتى التي تشوب العلاقات فما بينها شائبة. وحين دعونا شعراء العراق إلى الكويت عام 2005، وأقمنا ملتقى الكويت الأول للشعر العربي في العراق، لم يكن ذلك فقط من باب إصلاح ما أفسدته السياسة، بل إن علاقتنا بالشعراء في القطر العراقي هي علاقة أعمق من أن تفسدها السياسة، وكل ما هنالك، أننا أعدنا الاعتبار لهذه العلاقة بعد قطيعة فرضت قسراً، وتوالت السنون لتؤكد مقولتي السابقة، وهي أن السياسة زائلة والثقافة باقية. ولمست بنفسي النتائج الإيجابية للملتقى، وتأثرت كثيراً وأنا أرى لقاءً مؤثراً بين أخت جاءت من هولندا وأخيها الذي جاء من العراق إلى الكويت، من خلال دعوتنا لهما، بعد أن افترقا منذ سنوات. من نجد إلى الكويت... كيف ترى المسافة في وجدان شاعرنا عبدالعزيز سعود البابطين؟ وأيهما أذكى نار الشعر وأوقد جمراته؟ - نجد عزيزة على نفوسنا كثيراً وفيها جذورنا، وجدي الأول نزح من روضة سدير، لكنني لا أؤمن بالتقسيمات والحدود الجغرافية، بل كلنا وطن واحد وأرض حملت في جذور رحمها تاريخاً مشتركاً لأهالي المنطقة، ولو اقتفينا آثار أخفاف الإبل في الماضي البعيد، لما رأينا راحلة توقفت عند حدود أو حواجز، ولم يكن يستوقفها إلا الكلأ والماء ومصدر الرزق. هل ترى أن الشعر النبطي والقصيدة النثرية تفسدان لغة الضاد، وأنها معاول تعمل في جدار اللغة؟ - دعني أفرق بين الشعر النبطي والنثر، فالأول تراث في منطقتنا لا يمكن إغفال وجوده، حتى أننا احتفينا في إحدى ملتقياتنا بالشاعر محمد بن لعبون، وهو شاعر نبطي كبير ومبدع، لكنني أيضاً لا أرضى للشعر الشعبي أن يطغى على الفصيح، فإذا كان من الجميل أن نحافظ على تراثنا، فمن الأجمل أن نحافظ على ألسنتنا العربية، سليمة النطق، فصيحة اللغة. أما النثر فلا أميل إلى تسميته شعراً، أو قصيدة، بل هو نثر فني، ويظل في هذا الإطار، ويكون جميلاً في شكله نثراً، وليس هناك أي مبرر في أن يرتدي اسماً ليس له. إلى أي مدى تم إنجاز معجم البابطين لشعراء العربية؟ - هو معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين"التاسع عشر والعشرين"، وقطعنا فيه شوطاً مهماً، إذ تحمل الدورة المقبلة التي تقام في الكويت في تشرين الأول أكتوبر 2008 اسم هذا المعجم، ونحن اليوم في مراحل متقدمة من إنجازه، إذ يغطي فترة مهمة جداً من تاريخنا الشعري، ويتميز بكونه يجمع الكثير من اتجاهات الشعر ومدارسه، كما أنه أظهر في حيز الواقع شعراء لم يكونوا معروفين من قبل، على رغم جودة أشعارهم. وأبشر القراء بأن المعجم سيرى النور خلال 2008، وسيكون في أكثر من 30 مجلداً، وكل مجلد لا تقل صفحاته عن ألف صفحة وسيصدر بشكليه الورقي والإلكتروني. جائزة الإبداع الشعري، جائزة أحفاد الإمام البخاري، بعثة البابطين للدراسات العليا، مكتبة البابطين للشعر العربي في الكويت، جائزة الشعر العربي في فلسطين، وأستاذية اللغة العربية في جامعة قرطبة... هل من مردود تلمسونه من خلال هذه الإسهامات؟ وألا ترى قصوراً من جانب المال العربي في هذا الشأن؟ - أود أن أنوه هنا أننا إلى جانب كرسي البابطين للغة العربية في جامعة قرطبة، قمنا بإنشاء كرسي آخر على غراره ولكن في جامعة غرناطة، وفي طريقنا لإنشاء كرسي ثالث في جامعة أشبيليا، ورابع في جامعة"لنك"المالطية، وهناك مركز البابطين لحوار الحضارات في قرطبة في إسبانيا، ومركز البابطين للترجمة في بيروت، ومركز البابطين لتحقيق التراث الشعري في الإسكندرية، ودورات المرشدين السياحيين في قرطبة وغرناطة في قصر الحمراء، ودورات علم العروض وتذوق الشعر ومهارات اللغة العربية، التي أقيمت في جميع أنحاء الوطن العربي وإيران، وعندما أقمنا دورتنا في قرطبة في إسبانيا عام 2004 بعنوان:"ابن زيدون"اجتمع عقبها رؤساء جامعات الأندلس، وقرروا الذهاب إلى الحكومة المركزية في مدريد، والطلب منها أن تجعل اللغة العربية لغة رسمية ثانية في مناطق الأندلس، وأقر بالفعل في شهر نيسان أبريل الماضي تدريس العربية في المدارس الأندلسية اعتباراً من عام 2007. وهناك بالفعل قصور من جانب رجال المال العرب في هذا الشأن، وأتمنى أن يبرئ رجال الأعمال والمال العرب ذممهم، ويسارعوا إلى ما فيه خير الأمة العربية والإسلامية، وسرني أن بعض الأفراد والمؤسسات بدأت بالتحرك في اتجاه دعم حركة الثقافة بشكل أو بآخر. هناك قصور من المثقفين في ما يختص بالترجمة، ألم تفكر في تنفيذ مشاريع في هذا الصدد؟ - الترجمة سبيل مهم لنهضة أية أمة، وتنبهنا إلى هذه المسألة قبل سنتين تقريباً، فأنشأنا مركز البابطين للترجمة في بيروت، بالتعاون مع دار الساقي للنشر، وخلال الأشهر المقبلة هناك مجموعة جديدة ستصدر تباعاً، ومنها ما هو تحت الطبع. بعضها سيصدر بالتعاون مع دار الساقي، والبعض الآخر بالتعاون مع المؤسسة العربية للدراسات والنشر. أنت ابن الصحراء والبوادي، ماذا تعني الصحراء لكم، وهل ترى فيها مصدراً للإلهام؟ - لامست بسؤالك شغاف القلب وأيقظت في أعماقي حباً من نوع خاص. غالبية قصائدي قلتها أثناء رحلاتي في الصحراء العربية وغير العربية، حتى إنني أطلقت على ديواني الشعري الأول"بوح البوادي"، والثاني"مسافر في القفار"، فالفيافي ومسافات الصحراء، ومفرداتها وكائناتها ونبتها، يترك في وجداني موطناً أنأى به عن الواقع، وأحلق معه إلى فضاءات لا حدود لها. إقامتكم لدورة"ابن زيدون"في قرطبة، هل تعد جزءاً من تأثركم به، وما الذي اكتشفتموه في شخصه وجهله الآخرون؟ - كان اختيارنا لابن زيدون نابعاً من أمرين، الأول كونه شاعراً فذاً يمثل حالة نادرة خصوصاً من الشعر، والثاني كون حياته في الأندلس تتوافق مع الطرح الذي انتهجناه أخيراً في المؤسسة عن حوار الحضارات، ولا أظن أن شخصاً بحجم ابن زيدون أشبع دراسات وأبحاثاً خلال قرون من الزمن، سيظل مجهولاً للآخرين، لكننا تعاملنا مع تاريخه بشكل مختلف، إذ سافرنا إلى حيث كان يقيم، واصطحبنا لأجله أكثر من 400 مثقف ومفكر وشاعر وإعلامي من جميع دول العالم، وأصدرنا كماً كبيراً من الأبحاث والكتب عن إبداعه وحياته وعصره. ما السبب في إنشائكم مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي؟ - عندما لاحت في ذهني فكرة إنشاء المكتبة، كان الهاجس الذي يحدوني، هو تأسيس مكتبة غير تقليدية، أي لا تكون مجرد مكتبة خاصة بالكتب، بقدر ما تصبح وعاء معرفياً يصدر الثقافة، وبالفعل أقمنا حتى الآن - وفي أقل من سنتين على افتتاحها - موسمين ثقافيين، ودورة للغة العربية لأبنائنا الطلبة، وهي خطوات نحو طموح أكبر، والمكتبة في واقع الأمر مركز لإيداع الشعر العربي بكل أوعيته المعلوماتية، لتمثل المركز البحثي، الذي يلجأ إليه الباحثون في ديوان العرب. احتفت مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي بزيارة ولي العهد الأمير سلطان بن عبدالعزيز، كيف تصفون هذه الزيارة كمنعطف ثقافي في مسيرة المكتبة؟ - الأمير سلطان بن عبدالعزيز ليس زائراً، بل صاحب مكان، والمكتبة تشرفت بتفقده لأقسامها وقاعاتها ولقائه بالمثقفين فيها، ما أعطى دفقاً كبيراً للحالة الثقافية عموماً وليس فقط للمكتبة، لأن الأمير سلطان صاحب رؤية ثقافية، ومن عائلة كريمة حفلت بشعراء واحتفت بهم، وهم شخصياً من السياسيين القلائل الذين يولون الثقافة أهمية خاصة، ويؤمنون بدور المثقف في بناء التنمية بكل أشكالها وجوانبها. كيف تقوّم إسهامات مجامع اللغة العربية، هل ترى أنها تغرد بعيداً؟ - لا نريد أن نبخس جهود الآخرين"فمجامع اللغة العربية فيها أساتذة كبار، ولكل جهة أو مؤسسه ثقافية ظروفها الخاصة، وبالنسبة لحفظ الشعر في وعاء، فأظن أنه محل اهتمام عدد من المؤسسات الثقافية التي تعنى بالشعر أو التي تضع الشعر ضمن برنامجها الأدبي العام، وتخصص له جوائز ومسابقات. ألا ترى أن حوار الحضارات يجب أن يبدأ ثقافياً؟ - هناك فارق بين حوار الثقافات وحوار الحضارات، ولا يمكن للثاني أن يتمكن من دون إيجاد أرضية ثقافية منسجمة لا نزاع فيها، كما أن المثقفين هم أقدر على تحقيق التقارب بين الحضارات من السياسيين، لأن الآخرين تحكمهم المصالح والصراعات، بينما أصحاب الفكر يسعون إلى إيجاد لغة مشتركة، وإيجاد كتاب مفتوح مكتنز بالعلم والمعرفة، يقرأه العالم على اختلاف ألسنته وألوانه. ما إنجازات مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية، وما هو المتوقع منه؟ - المركز حديث الإنشاء، وخلال فترة قصيرة من إنشائه أصدر ثلاثة كتب"شعر ابن شرف القيروني الابن"، جمع وتحقيق الدكتور أشرف محمود نجا،"ديوان الشعر الصقلي"جمع وتحقيق الدكتور فوزي عيسى،"شعر إبراهيم بن المهدي وأخباره ونثره"جمع وتحقيق الدكتور محمد مصطفى أبوشوارب، وهناك قائمة أخرى من الإصدارات، سترى النور تباعاً وفق البرنامج المرسوم للمركز.