حدَّث سهم بن كنانة، قال: تهاوت ذات يوم محفظتي واحمر سهمي، فقررت الخروج من بيتي لزيارة عمي. كان عمي سعد بن كنانة، رجلاً ذا سمعة ومكانة، وكان إذا ضاق صدره خرج إلى استراحته، ليقرَّ عينه ويهنأ براحته. كان مهيباً أديباً، طويلاً جميلاً، نيَّف على الستين، غير أن روحه روح فتى في العشرين. ولو حضرت مجلسه ما مللت من كلامه، ولا ارتويت من نشيده وأنغامه، فكأنه يسكب في فمك الشهد، أو يطرد عن عينيك السهد، والذي نفس سهم بيده إنْ كنتُ لأخرجُ من داره وفي نفسي أن أبقى لما أجدُ من أثر حكاياته، وحلاوة دعاباته. ولما كان ذلك اليوم استثنائيا، وكان بكل المقاييس دمويا، جعلت بيت العم قبلتي، آملاً أن يعيد بظرفه بسمتي. جئته بعد كرَّة خاسرة، وقت العشاء الآخرة، فرحب بي أجمل ترحيب، وأحضر لي كوب حليب. وقال: يبدو أنك عانيت اليوم من السوق، فلا بأس بشيء من حليب النوق، ليس مثله يهدئ الأعصاب، لا سيما عندما يقع المرء ضحية نشال أو نصاب. شربت الحليب، وقلت في نفسي: هذا شيء عجيب، ربما كان عمي صحيح الجسم، لطيف الرسم، لأنه يتناول الحليب كل صبح، فيداوي منه كل جرح. قطع عمي حبل أفكاري سائلاً: ما صنع الله بك يا سهم؟ قلت: لا جديد يا عم... لقد أفلست مرة أخرى، وتبخر حلمي على صخرة الهبوط القاسي، الذي عصف أخيراً بمؤشر تاسي. قال: إذا ضُربَ المرء عشر مرات في الرأس، ولم يفهم اللعبة ولم يتعلم الدرس، فلا بد له من الركل والرفس. وهنا شعرت بالحرج، وتمتمت: يا من بيده مفاتيح الفرج... قال عمي: اسمع يا سهم، أنت رجل شهم، ووقتك أثمن من أن تضيعه في سوق مرد قادتها على النصب، وأدمنوا التزييف والسلب، إني والله أعرف قدرك، وأحفظ سرك، وأربأ بمثلك أن يستسلم للإدمان، غارقاً وهو الربان، وخابطاً بلا عقل ولا كيان، أتصعد جبلاً صورياً لا وجود له، وتتهيب صعود الجبال الحقيقية التي تنتصب أمام عينيك وتسد الأفق بشموخها وجلالها؟ أتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ ألا تنجو بنفسك، وتكفر عن أمسك، وتهرب إلى حيث راحة البال، وإنقاذ ما تبقى من مال؟ يا سهم، هل أغلقت كل أبواب الرزق، لتتشبث بهذا العذق، ألم تعلم بعد أنها سوق معاقة الحركة، ممحوقة البركة، كالحليب إذا نزعوا منه الدسم، فلا يبقى فيه إلا الاسم. خذها مني يا ابن أخي: لن يستقيم حالك، ولن يزيد مالك، مادمت أسيراً لهذه السوق، التي علمت الناس معنى العقوق. قال سهم بن كنانة: وكنت أعلم أن عمي على حق، وأن مقالته صدق، فالسوق تستنزف عقلي لا مالي فحسب، وهي أتت على كل رأس المال والكسب، قلت له: يا عم، وماذا أصنع ببقية من مال، لا تسمن من جوع ولا تصلح من حال؟ وأين أضعها.. لقد كنت والله أرُبّها لأسدد بها الديون، حتى انهارت في الحصون، وغشانا صرف المنون. هاهم يمطروننا باكتتاب إثر اكتتاب، فكأننا مذنبون حق عليهم العذاب، وهنا لم أتمالك دموعي فانفجرت باكياً. صاح عمي: ماذا تعني؟ قلت: شركات يكتتب فيها الناس بما تبقى من أموالهم، اتخذت حجة لتركيع السوق، ومص العروق، ولهذا تهاوت المؤشرات، واحمرّت الشاشات، وتبخرت الأرباح، وتحولت المحافظ إلى اشباح، بل صرخ بعضهم: باح.. باح.. مالي راح! هتف عمي: هذا ليس بالأمر الزين، بل هو لعمر الله شين.. أو كلما حصل اكتتاب، أشهروا على الناس سيف الإرهاب؟ قلت: أجل يا عم.. إنه إرهاب، وليتهم يحاربونه، وبقوة الردع يكافحونه، ليتهم يجففون منابعه، ويقطعون أصابعه، ويضعون صناعه في السجون، ويكفون أذاهم عن المسلمين. آه يا عم، هل تعلم أنه لم يبق في محفظتي إلا خمسة في المئة؟ قال عمي: ولماذا انتظرت حتى هذه الخمسة، والبيع لا يحتاج أكثر من لمسة؟ هل ينتظر المرء حتى يفقد كسبه، ويبلغ من الدرك هذه النسبة؟ ثم أردف محاولاً تهدئة خاطري: هون عليك يا سهم.. المال يروح ويجيء.. ألم يقل حاتم الطائي: أماويَّ إن المالَ غادٍ ورائحٌ ويبقى من المال الأحاديثُ والذكرُ لكن ماذا ستصنع بما تبقى من مالك؟ قلت: بم تشير عليَّ يا عم؟ قال: هل تسمع النصح وتأخذ العلم؟ قلت: نعم قال: تزوج به. قلت: ولكنني متزوج، ولدي خمسة أولاد. قال: أعرف ذلك... ولكنك شاعر مكين، ذو لطف ولين، وقد نيفت على الأربعين، ولا ريب أنك تردد مع فيروز:"أنا عندي حنين"، وفي مثل سنك يحتاج الرجل إلى امرأة ذات دلال، تنسيه ما فقد من مال، وتخفف عنه المؤن والأحمال. قال سهم بن كنانة: وكأنما أعجبتني الفكرة، وصادفت في قلبي هوى بعد التجربة المرة، وقلت في نفسي: إن هذه الخمسة في المئة ذاهبة لا محالة، وإن لم يسلبها الصناع، أصابهم الله بالأوجاع، سلبتها هيئة سوق المال، التي خيبت كل الآمال... وهنا سألت عمي: ما حالك أنت مع السوق؟ ضحك وقال: ودعته قبل عام، وأقسمت بين الركن والمقام، ألا أقربه ولو جاز الصعاب، وعانق السحاب، فكأنني وأنا أناجي ربي أعاهده جل شأنه ألا أعود إلى ما كنت أصنع. قلت: أهو ذنب كي تتوب منه، أو شر كي تقلع عنه؟ قال: بالطبع يا سهم، ولا يسأل سؤالك من كانت لديه ذرة من فهم، ما الذنب إن لم يكن إضاعة المال، وتدمير المآل، وقتل الوقت، ونشر البؤس والمقت؟ قلت: وماذا صنعت؟ قال: أتكتم السر؟ قلت: في بئر! قال: تزوجت غادة حسناء، ذات رقة وصفاء، يسر العين مرآها، وينعش الروح ريّاها. قلت: أو فعلتها؟ قال: إي وربي.. فعلتها قبلك يا سهم.. أنا أحيي مع زوجتي الليالي الحمراء، وأنت تغازل شاشتك الحمراء.. ثم أطلق عمي ضحكة مدوية. قال سهم بن كنانة: كيف فاتت علي، وقد كان الأمر بيدي؟ والله ما لقيها إلا عمي، وأنا أرقب في هذه المحرقة همي! مرة أخرى يطرد عمي بنات أفكاري فيخاطبني: اترك عنك الأفكار، وانكح ما طاب لك من الأبكار، فلم يبق في العمر متسع، وما الحياة الدنيا إلا منتجع. قلت: وهل أنت سعيد بها؟ قال: لقد أنستني أيام الإفلاس، وجعلتني محلقاً في عالم الإحساس، وما على صاحب الغيد من باس، بل هو من أسعد الناس، خذ العلم يا سهم، إنهن يجددن الحياة، ويرفعن الجباه، ويطردن الملل، وربما شفيت بهن العلل. قال سهم بن كنانة: وقلبت الأمر على وجوهه، فوجدت أن عمي قد كسب وخسرت، ونهض وبركت، فقد أنفق ماله في الخير، بينما تركت مالي نهباً لكواسر الطير. وخرجت من عنده وأنا أتمتم: هل تقدم يا سهم، أم ستظل أسير الوهم؟ * أكاديمي وصحافي سعودي