يقول الله تعالى في كتابه الكريم: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقون يا أولي الألباب صدق الله العظيم... وأشهر الحج عزماً وإرادة، وهي أشهره تنفيذاً وتحقيقاً. الحج هو أحد أركان الإسلام الخمسة، وهو تمامها، وقد فُرض على كل مسلم ومسلمة مرة في العمر عند الاستطاعة... قال تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا. أما هذه الاستطاعة فإن أمرها في الواقع الصحيح سهل ميسر في زمننا الراهن، فسبل المواصلات مريحة، والأمن مستتب، والنفقات ليست من الكثرة بحيث تُعجز، إنها عند العزم المصمم، لا تلبث أن توجد في يسر نسبي. وإنه إذن لمن الخداع الزائف أن يتعلل الانسان بالاستطاعة، فإن هذه الاستطاعة تتبع حرارة الايمان ارتفاعاً وانخفاضاً، والناس في الغالب الأعم مستطيعون قادرون، ولكن الأمل في امتداد العمر، والانغماس في غمرات المادة، والاستغراق في شؤون الدنيا، يجعل الانسان ? وهو مستطيع ? يمهل حتى تنتهي به الحياة، وفي مثل ذلك يقول سعيد بن جبير، ومجاهد، وطاوس، رضي الله عنهم:"لو علمت رجلاً غنياً وجب عليه الحج، ثم مات قبل أن يحج ما صليت عليه". إن الدنيا تستخدم الناس وتستعبدهم، فتصرفهم عن عبادة الله، وعن المثل العليا في الدين والاخلاق، وإنه لمن فضل الله على عباده ان شرع لهم الوسائل التي تنقذهم من الاستعباد، وتحقق لهم التحرر من عبودية المادة، ومن هذه الوسائل فريضة الحج. إنها تجرد خالص صادق لا تشوبه شائبة الرياء، ذلك ان من عزم على الحج يبدأ أول ما يبدأ بالتوبة النصوح الصادقة، ودعاء الله ان يجعل حجه خالصاً لوجهه الكريم. ومنذ هذه اللحظة يقطع صلته بالماضي الأليم ليبدأ مستقبلاً صالحاً كريماً. تبدأ شعائر الله في الحج بالإحرام، فيغتسل الانسان وينوي غسل الاحرام، ويتم بذلك له الاغتسال الباطني بالتوبة النصوح، والاغتسال الظاهري، إنه أصبح من المتطهرين، وتثبيتاً لذلك وعلامة على انقطاع صلته بالماضي، وتجرداً الى الله، إنه يفارق الثياب المخيطة ويلبس ثياب الإحرام، بيضاء ناصعة، ثم ينوي الاحرام بالحج، معنى ذلك أنه اصبح خالصاً لله، مستجيباً لندائه الكريم بألا يتجه الى سواه، فينطق فؤاده وتنطق جوارحه."لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". ها هو ذا الآن قد لبى، أي استجاب لله، ونفى الشرك عنه، سبحانه، وقصر الحمد عليه، واستقر في كيانه ان ما به من نعمة فمن الله، وأن الملك كله لله والدنيا والآخرة، الملك والملكوت له سبحانه لا شريك له... هذه التلبية هي شعاره الدائم. هي سنته المستقرة، ينطق بها اذا صعد، وينطق بها اذا هبط، وينطق بها اذا ركب، وينطق بها اذا نزل، إنها ذكر في كل لحظة، فتصبح بذلك يقيناً تاماً، حتى اذا ما انتهت به الاسفار الى بيت الله الحرام. ها هو ذا يطوف بالبيت راجياً أن ينال نظرة من رب البيت، لعل الباب يُفتح، ولعل الأستار تُرفع، ولعل نسمات الرحمة تهب، ولعل الرضا الكريم يضمر الأجواء والآفاق، لعل الله يتقبل. ويبدأ السعي بين الصفا والمروة، إنه يسعى امتثالاً لأمر الله، ويسعى وهو متذكر تلك السيدة الكريمة التي كانت تسعى في طلب الماء رحمة بابنها بين الصفا والمروة. الحج عرفة، كما يقول صلوات الله عليه وسلامه، وفي عرفة تجتمع الأرواح، وقد تزكت بالتوبة والاحرام والطواف، والسعي، تتجه الى الله في ضراعة، وتدعوه سبحانه في خضوع، وتقف شاخصة ببصرها الى السماء في خشوع طالبة من الله الرحمة المنجية. وينتهي الحج بقتل ابليس بالرجم، أو ? بتعبير أدق ? ينتهي بقتل الشر حتى لا يتسلل مرة أخرى الى النفس. ويقول صلوات الله وسلامه عليه:"من حج فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". مالك ناصر درار - جدة