بدأ كل شيء يبعث على الراحة في مؤتمر الباحة، طبيعة خلابة تفجؤك من لحظة وصولك إلى المطار، واستقبال دافئ من رئيس النادي الأدبي أحمد المساعد، ونائبه الشاعر الرقيق حسن الزهراني، وتنظيم جيد لوقائع مؤتمر يعني بالرواية السعودية، ويحاول مقاربتها في الشكل، بدا كذلك أن المؤتمرين مسيطرون على أدواتهم، رؤيتهم واضحة للموضوعات التي يتحدثون عنها، كما أن هؤلاء الجالسين في القاعة يستمعون، كانوا يطرحون أسئلة عميقة، ويتلقون ردوداً أكثر عمقاً، حال من السعادة تتأكد حين ترى بزوغاً للناقدات السعوديات، اللاتي لفتن انتباه إحدى الحاضرات فدعت إلى الاهتمام بهن في موازاة اهتمام الإعلام بالروائيات السعوديات. كل هذا لم يعكر صفوه ? على الأقل عندي ? إلا غياب اثنين، لم يبد أن غيابهما قد لفت نظر أحد، ولا اهتم واحد من المؤتمرين بالسؤال عن أسباب غيابهما: الروائي والقارئ، غاب هذان الطرفان المهمان، فلم يحضر فعاليات المؤتمر إلا النقاد الذين تناوبوا المنصة والقاعة فيما يشبه لعبة الكراسي الموسيقية، وعلى رغم قوة كثير من البحوث التي ألقيت في المؤتمر، ورضا أصحابها عنها، فإن السؤال المهم هنا لمن يتحدث هؤلاء؟ بعض النقاد لا يعنيهم كثيراً هذا السؤال، ويلقون باللائمة في ذلك على القارئ حين يتذكرونه أحياناً، لكن انشغال النقاد بأنفسهم، وإعجابهم بما يكتبون وينشرون مثل إعجاب نارسيس بنفسه في الأسطورة اليونانية يجعل هذا السؤال غير ذي بال، فالقارئ طرف مهم برغم أنفس أصدقائنا النقاد، والتوجه إليه بالحديث، واحترام مداركه واهتماماته يجب أن يكون في وعي هؤلاء وهم يكتبون، والتعويل على قارئ خيالي قادم في عصور تالية يفهم ما يكتبه النقاد الآن أقرب إلى اللغو، فمنذ أن بدأ النقد العربي ينصرف على نفسه قبل ما يزيد عن 35 عاماً، وهذا القارئ لم يأت بعد، والذي حدث أن جل مجتمع القراء ازدادوا انصرافاً عما يكتبه النقاد، وشواهد ذلك تظهر في المؤتمرات التي لم يكن مؤتمر الباحة حال فريدة بينها. لهذه القطيعة بين النقد والقراء أسباب كثيرة ومعقدة، في هذا المقال سأركز على سبب واحد منها: انفجار النظريات الأدبية في القرن ال 20، وما أحدثته من تحول في مفهوم النقد ووظيفته، ولأن سياق العرض هنا لا يسمح بالتفصيل، فإن الإيجاز قد يعطي فكرة عن التصور الذي أريده، والقرن ال 20 في مجال الأدب هو قرن النظرية بلا منازع، وجملة النظريات التي ظهرت فيه منذ ألقى دي سوسير محاضراته في علم اللغة العام تتجاوز ما أنتجه الفكر البشري في كل القرون السابقة عليه، لكن أخطر النتائج التي ترتبت على انفجار النظريات النقدية هو تركيزها على اللغة، وجعلها حقل التحليل والتأمل، والمبالغة في الحديث عن الدور الذي تمارسه في الأدب، هذه النتيجة في نفسها لم تكن هي السبب المباشر في الحديث عن الدور الذي تمارسه في الأدب، هذه النتيجة في نفسها لم تكن هي السبب المباشر في تغريب النقد وانصراف القراء عنه، بل ما ترتب عليها من ممارسات تطبيقية. ففي مجال الشعر ظهرت الأسلوبية التي أصبحت مطية لمحدودي القدرات، يقدمون من خلالها تأويلات شديدة الرداءة لنصوص غاية في الروعة، وهم من أجل إخفاء قدراتهم، فإنهم يعمدون على إيهام القارئ المفترض بلغة مثقلة بالمصطلحات، وبغموض في التعبيرات التي لا تخفي وراءها شيئاً مهماً. وفي مجال النثر ظهرت السرديات التي ارتبطت بالبنيوية ارتباطاً وثيقاً، ولقد كان في السرديات جانب إيجابي شديد الأهمية، فقد قدمت مصطلحات منضبطة في النقد الروائي وأضاءت مناطق في النص السردي لم يكن متاحاً لها أن تظهر لولا السرديات مثل المؤلف الضمني والقارئ الضمني، وتحويل الشخصيات إلى جملة من الوظائف السردية، وطرحت أسئلة لم تكن مناهج التحليل الروائي الأخرى مهيئة لطرحها مثل من يحكي الرواية؟ ومن يقرؤها؟ وآثار ذلك على مسار السرد داخل النص، وقد بدت هيمنتها على مسار النقد الروائي العربي الآن واضحة في مؤتمر الباحة، وبدت سيطرة كثير من المؤتمرين على أدوات السرديات في تحليل النصوص الروائية مثيرة للإعجاب. لكن مشكلة السرديات الأساسية أنها ظهرت في أفق تحول فيه مفهوم النقد من تجربة في القراءة تحاول أن تكشف عن جوانب القوة أو الضعف في النص، وأن تبرر لجانب المتعة أو الملل فيما يقرؤه الناقد، إلى منهج وصفي يتجاهل هذا الجانب تماماً، ويعامل كل النصوص الروائية على قدم المساواة، وفي ذلك بدت السرديات منهجاً"ديمقراطياً"، فأنت تستطيع ? وفق السرديات ? أن تحلل نصاً لنجيب محفوظ، وتصل منه إلى نتائج معينة، وتستطيع كذلك أن تحلل نصاً لأحد من الروائيين المبتدئين، وتصل إلى نتائج شبيهة، من دون أن تشعر بفارق كبير بين إبداع هذا أو إبداع ذاك. إن نقطة الضعف الأساسية في السرديات أنها لا تستطيع ? لسبب في تكوينها ? أن تنقل تجربة الناقد في تفاعله مع النص السردي، لا تستطيع أن تكشف عن أسباب المتعة والهزة التي تصاحب قراءة بعض الأعمال، تبدو السرديات في هذا الجانب ? مثلما قال تيري إيجلتون عن البنيوية ? أنها قتلت الشخص من أجل أن تحلل وظائفه الحيوية، لذلك تبدو نصوص النقد القائم على السرديات معقدة، وربما منفرة، لدرجة أنها دفعت روائياً بحجم نجيب محفوظ أن يقول إنه لا يفهم كثيراً مما يكتب من نقد لرواياته. لا يعني هذا الدعوة إلى العودة للنقد الانطباعي على الصورة التي كان عليها في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، على رغم أن هذا النقد قدم لنا نقاداً مثل طه حسين ومحمد مندور وأنور العداوي وسيد قطب قبل تحوله الدرامي الهائل ورجاء النقاش، وهؤلاء استطاعوا أن يكتشفوا مواهب روائية وشعرية كثيرة ملأت الدنيا بعد ذلك وشغلت الناس، أما حصيلة نقاد السرديات في هذا الجانب فتكاد أن تقترب من الصفر، وهو الأمر نفسه الذي ينحسب على نقاد الأسلوبية في الشعر. لقد شغلنا أصدقاؤنا النقاد في المغرب العربي بهذه الموجة من النقد الروائي، وهم المسؤولون الكبار عن إشاعتها في العالم العربي، وبدت هناك فتنة بما قدمون من أطروحات، حتى أن إحدى المشتركات وصفت سعيد يقطين ? وقد كان مشاركاً في مؤتمر الباحة بأنه"هامور؟!"النقد الروائي في العالم العربي، لكن ألم يحن الوقت بعد لمراجعة ما أنجزته السرديات؟ خصوصاً أن هذه المراجعة تتم الآن في بيئة السرديات الأصلية في الغرب، وهناك تحول ظاهرة في نقد الرواية لا يمكن تجاهله، إن ما قدمه مؤتمر الباحة يصلح أن يكون مجالاً للنقاش في الدوائر الجامعية، لكن مؤتمراً يعقده نادٍ أدبي مهموم بالثقافة العامة يجب أن يؤرقه كثيراً غياب القراء والمبدعين عن وقائعه.