ترتكز تجربة الشاعر التونسي المنصف المزغني على الكوميديا الشعرية ومراوغة القارئ ومفاجأته، التي يرى أنها خاصية لا تمثل إلا ذاته، وحين يبدأ في إلقاء شعره فإنه يتحول إلى مسرحي وشاعر ومرشد متمرّس في طبقات صوته"الإذاعي"ومعبراً بالمعنى بكلتا يديه. ويطرح المزغني، الذي التقته"الحياة"على هامش مهرجان"سوق عكاظ"في دورته الأخيرة، في هذا الحوار موقفه من شعراء قصيدة النثر وابتعاد الجمهور عن الأمسيات الشعرية، وكيف يرى الهوَّة الأدبية بين المشارقة والمغاربة، كما يتطرق إلى الشعر السعودي وتجربة الحداثة فيه، ومواضيع أخرى. كيف تقيّم مشاركتك في"سوق عكاظ"؟ كل لفتة تخصّ الشعر الآن هي لفتة لابد أن نحييّ القائمين عليها ونعتبرها نوعاً من الانتصار لهذا الفن، الذي كان فن العرب الأول وأصبح متخلّفاً عن جمهوره. لأن جمهور الشعر الآن صار موزعاً، فكان الشاعر في السابق يلتهم كل الجمهور واليوم تناهبت الجمهور فنون كثيرة، و ألعاب مختلفة لا علاقة لها بالفكر. الشعر هو شيء أساسي للإنسان بصورة عامة و عند العربي له مكانه خاصة، خصوصاً حين يعاد أحياء"سوق عكاظ"الذي هو أكثر من سوق وكأنه يشبه مهرجان"كان"السينمائي. فعكاظ ليس شعراً فقط بل نقد، والنقد الآن يعاني من حال انسحاب بسبب كثير من المجاملات التي تطغى على الساحة ورأيناها بشكل أصفر وفاقع عند انفتاح هذا الشيء الجديد، الذي هو الشبكة العنكبوتية. ما الطرق التي يمكن من خلالها ربط الجمهور بالشعر، وخصوصاً في المهرجانات مثل"سوق عكاظ"؟ يجب أن يكون الشعر مصحوباً بالنقد مصحوباً بالتحكيم، ولابد من ربط صلته مع هذا الجمهور الكافر بالشعر ، وهذا الكفر أسسه مجموعة الشعراء الذين يتوافرون على قدر كبير من الطيبة، وعلى قدر كذلك من فقدان الحس بين الشعر والجمهور. و أعتقد أن الشعر هو تعبير ذاتي ولكن هذه الذات مربوطة بجماعة ومربوطة كذلك بفن عريق اسمه الشعر، هل يمكن أن ننجز قطيعة مثل ما أنجزناها الآن؟ قطيعة غير منهجيه بحيث إنها منفصلة تماماً عن جذورها الأولى. لا يمكن إعادة إنتاج"سوق عكاظ"مثل ما هو، ولكن علينا أن نعيد إنتاجه بشروطنا الحالية و بالكثير من الصراحة والشفافية والمواجهة، ولابد أن نبقي النقد أساسياً في مثل هذه الأمسيات وإلا فإن عكاظ سيفقد شيئاً من عناصره المكونة له، وهي هذه العلاقة الخلاقة بين الشعر من جهة ونقده من جهة أخرى. ماذا تعني لك قصيدة النثر العربية؟ أعتقد أن قصيدة النثر اجتهاد من الاجتهادات وهي باب يمكن أن يكون مفتوحاً لتجريب أشياء جديدة وربما البحث في حساسية جديدة، ولكن المثير للشبهة هو أن بعض الذين يتحمسون كثيراً لقصيدة النثر يتخذون موقف المعاداة من القصيدة ذات نظام الشطرين مثلاً، أو قصيدة التفعيلة التي لم تستوفِ بعدُ كل تجاربها، التي ما إن بدأت حتى جاءت قصيدة النثر التي أظن أنها من تأثير الشعر المترجم، فظنّ بعض القراء الذين سيصبحون فيما بعد شعراء أنه يمكن للشعر أن يتخلّى نهائياً عن الوزن وبالتالي شُبّه لهم أن الشعر المترجم هو شعر. ولكن الشعر المترجم يبقى مجرد نقل للمعاني الشعرية لشاعر آخر لم نتعرّف عليه لأن حاجزاً لغوياً منعنا من ذلك، فصارت قصيدة النثر مسيطرة إعلامياً فقط ولكنها لم تخترق الجماهير بعد. ما زال هناك الكثير من التعب حتى تكتسب هذه الأهمية التي تطمح إليها ولا يمكن لها أن تعدم كل التجارب الأخرى، على أساس أنها قصيدة الحرية والديمقراطية. لا الشعراء الذين سبقونا كتبوا بحريتهم وفق ما يمكن أن نسميه بهذه الحرية التي ترقص في قيودها حتى يبدوا القيد أنه غير مرئي .واستشهد هنا بما قاله صلاح عبدالصبور :"ولكني أقول لكم بأن القيد حرية"أنا أعتقد أن الشعر إذا صار منساباً إلى هذا الحد فإن كل الشعب العربي سيصبح شاعراً، وقد لاحظت بعضاً من شعرائها يريدوا أن يصرخوا ويخطبوا والحال أن قصيدة النثر لا تتعامل مع الخطابة، هم مباشرون ويريدون أن يكتبوا حتى قصائد مدح، ولكن يظلون خارج السياق و نحن نرى أن الجمهور العربي لا يمكن أن ندربه بهذه السرعة على قصيدة النثر كقصيدة منبرية. لكن شعراء قصيدة النثر موجودون وينتشرون بشكل كبير في المهرجانات؟ هذا من حقهم ولكني أعتقد أن الاستسهال في كتابتها صار هو الأطغى على الممارسة.. هناك القليل من الجدية في التعامل مع الشعر كفن وهذا ينعكس على الجمهور فإما أن يريد الجمهور مكان الشاعر أو هو جمهور يسعى للمجاملة في الاستماع ويسعى إلى أن يهب أذنه لهذه الحساسية الجديدة. ألا يوجد أسماء قدمت تجارب جميلة ومهمة في قصيدة النثر؟ هناك أسماء قليلة جداً وعلى رأسها محمد الماغوط الذي أعتبره شفيع قصيدة النثر، هو الذي أنسانا قضية الوزن فأين الشاعر"النثري"أو الشاعر"الناثر"أو الشاعر"النثرجي"إن شئت، الذي يمكن أن ينسيك قضية مهمة وهي قضية الإيقاع الذي لا أرى داعياً للتفريط فيها بهذه السهولة، والحال أن قصيدة مثل قصيدة التفعيلة ما زالت قادرة على أن تنجز وربما قادرة على أن تبتلع قصيدة النثر، فهل التخلي تماماً عن العروض شيء جميل؟ هل التمسك بالعروض والقوافي شيء جميل؟ الجميل هو الشعر في النهاية. هل تعتقد أن قصيدة النثر تمرّ أولا من باب الأشكال الشعرية الأخرى السابقة؟ ثمة سلالة لابد أن نتبعها، و إذا كانت القصيدة تحت رعاية شاعر كبير فإنه بلا شك سيكتبها بكل جدية وبكل مسؤولية وبصعوبة كبيرة جداً، وهذا يمكن أن يذكرنا بمسيرة بيكاسو ومسيرة أدونيس الذي كتب التقليدي ثم الحر ثم التفعيلة ثم وصل إلى قصيدة النثر، فكان وصوله مثل بيكاسو الذي بدأ الرسم الطبيعي إلى أن وصل إلى المرحلة التكعيبية، وكانت نتيجة معاناة وكانت هذه النظرة لهذه الممارسة مقنعة، لماذا لأنها لم تنشأ عن عجز ولكن نشأت عن اقتدار ونشأت عن محاولة اقتحام مناطق جديدة ولكن هذا الاقتحام تم من فنان مقتدر. أما أن نأخذ القطار وهو يمشي كما يقول المثل الأجنبي فإن هذا يوقع الكثير من الحوادث الشعرية التي نراها الآن. الشاعر العربي متنصّل من الهم الجماعي هل اللجوء إلى الشعر الذهني سبب فجوة بين القارئ والشاعر؟ الشعر الذهني موجود حتى في الشعر العربي القديم لأن الشاعر العربي رأى أنه متنصّل من الهم الجماعي وعليه أن يحفر في ذاته وعليه أن يكتب قصيدة كما يشاء وبالأسلوب الذي يشاء، وإذا حصل له جمهور فهذا يعتبره كسباً، أما أن تنخرط القصيدة في الذهنية الخالصة فإن ذلك يعدّ عطباً كيمياويا شعرياً لماذا؟ لأن القصيدة حتى ولو كانت بسيطة فإنها تحتوي على شيء من الذهن وشيء من الحس وشيء من الموسيقي، والشاعر هو الذي ينجز هذه الخلطة أو هذه الطبخة اللغوية بكيفية لا تشعر معها بأنك تقرأ نصاً فلسفياً، وفي الشعر شيء من الفلسفة شيء خفيف جداً ولا يمكن أن يكون ذا بروز وذا طغيان بحيث إنه يمحو هذا الجانب الحالم، أو هذا الجانب الذي يحاول أن يسرق القارئ من نفسه، لأن الشعر والأدب عموماً محاولة لسرقة القارئ من نفسه وإلهائه عن الموت و التفكير فيه. دعني أسألك عن تجربتك الشعرية إلى أين تسير بها؟ الكتابة عندي ألا أعيد إنتاج غيري، و أن أبحث عن صوتي وأتزوجه، وهذه عملية تستغرق الكثير في رحلة الشاعر بحثاً عن ذاته. فأنا أسعى إلى أن أكتب قصيدة وكأني أريد أن أنجز شيئاً في السوق ولكي تنجز شيئاً جديداً فعليك أن تعرف ما السوق وما يوجد فيها، وعليك أن تتطلع إلى الكثيرين ثم عليك أن تنأى بنفسك وتنساهم وتقترح شيئاً جديداً، فإذا لم يحصل هذا فمن الأحسن إلا نكتب، فالفحولة الشعرية مرتبطة بنجابة القصيدة لا بإنجاب القصيدة ولابد من أن تكون القصيدة نجيبة ونبيهة وذكية، تسعى إلى أن تخربش شيئاً ما لدى القارئ أو المتلقي عموماً، إذا لم تخربش فيه شيئاً فمن الأحسن أن لا يكتبها، من الأحسن أن يصمت أن يعود إلى قصيدة قديمة له ويعيدها حتى في المهرجانات. وفي تجربتي أسعى دائماً إلى أن أكوّن نفسي، حتى إذا كتبت قصيدة وأجمع الجميع على أنها جيدة فأنا لا أسعى إلى ابتزاز نجاحها أو أعيد إنتاجها أو أسعى إلى أن أسرق من نفسي، ثم علي أثناء الكتابة أن أشطب كثيراً لأن أهم من الكتابة إعادة الكتابة، وهي تمكنك من التعرف على أصابع الشعراء الآخرين، الذين تسللوا إليك وكتبوا معك القصيدة، وعليك أن تقوم بدور الشرطي الذي يبحث عن الأشياء التي ليست لك و ربما يعطيك الدفق الشعري الأول كلاماً كثيراً، عليك أن تكتبه ولكن عليك أن تنبذه أن تتركه جانباً ثم تعود إليه وتسأل هل هذا لي؟ فإذا كانت القصيدة لك فسيظهر، وإذا لم تكن فعليك أن تشطب وإذا شطبت فإنك سوف تسعى إلى سدّ هذه الثغرات في القصيدة، وعملية السد هذه هي التي ستمكنك من الهبوط إلى ذاتك وعليك أن تقترح على الآخرين أشياء تبدوا وكأنه لم يتطرق إليها أحد، وهذا يتأتّى بالجهد و المكابدة. وطبعاً هذه المكابدة فيها صنعة، وهذه الصنعة تحتاج إلى صنعة أخرى هي إخفاء الصنعة كيف تصنع وتخفي الصناعة؟ بحيث تجعل المتلقي يقول أنا أستطيع أن أكتب مثل هذا الكلام، حتى إذا حاول عجز ، لماذا؟ لأنه لم يعرف أن هذه العملية عملية جدلية وفيها الكثير من الجهد والكثير من الفن والاختصاص. المغرب ليس عقلاً فقط هل ما زال هناك هوّةٌ أدبية بين المشارقة والمغاربة أم أنها انتهت بموجب أشياء كثيرة؟ نتمنى أن تكون انتهت لأن هذه المسألة قديمة، فنحن الشعراء نكتب القصيدة العربية، ونقف أمام محكمة واحدة هي محكمة الفصحى ومن العيب ألا تصل هذه القصائد، وقد لاحظت أن الذاكرة المشرقية خصوصاً ما زالت تسعى إلى جعل المغرب العربي وكأنه منطقة لإنتاج العقل والفلسفة والفكر. وهذا تقسيم خاطئ لأنه لا يمكن أن نقول إن هناك مناطق متصحّرة شعرياً ومناطق مخضرّة فكرياً، الشاعر يولد في اللغة العربية من نواكشوط إلى أقصى مكان في الخليج، وما على المنظمين إلا أن ينتبهوا إلى مثل هذا. فأنا مثلاً كتبت قصيدة عن ناجي العلي ونشرتها في الأردن، وكتبتها على مدار عامين وفيها جهد كبير فني وحتى على مستوى الإخراج، إلا أنها غير موجودة في الذاكرة الشرقية، وأنا لا أستطيع أن أقوم بالترويج لأني لست مبدعاً في الترويج، هذه مسألة لابد أن يُنتبه لها ثم ما زال التواصل يحتاج إلى كثير من الجهود، لابد أن نستغل كل هذه الوسائل العصرية التي توافرت حتى نزيل كثير من الحواجز وأعتقد أن المسألة ذاهبة إلى اضمحلال وذاهبة إلى العوربة. أخيراً كيف ترى الأدب والأدباء في السعودية ؟ إن الأدب السعودي كان غائباً عنا قبل 1984، وعندما ذهبنا إلى بغداد واكتشفنا مجموعة لا بأس بها من الشعراء السعوديين، الذين لمسنا منهم إخوة الحساسية مثل عبدالله الصيخان محمد الحربي محمد الثبيتي علي الدميني. هذه هي الأسماء التي جعلتنا ننتبه إلى أن السعودية فيها هؤلاء الشعراء الذين من الممكن أن نصبح معهم ونحن شعراء حداثة كما يقال أصدقاء. أما الشعر الآخر التقليدي فنعرفه من خلال نماذج لستُ أتواشج نفسياً معها. فالنماذج التقليدية لم تكن تعنيني لأنها مستقرة. وكنت مع الموجه القلقة في الشعر السعودي، وأتابع أجيالاً جديدة هي ما زالت تتابع هذا النمط من النظر للوجود وهذا شيء مفرح. ولكنها في الوقت ذاته ما زالت قاصرة والصوت ما زال عاجزاً عن الوصول كما ينبغي، ويمكن أن يكون ثمة أصوات ستبلغ مدى كبيراً لو وصلت وتواصلت.