تعج المجتمعات النامية بالأخطاء لدرجة جعلتها منجماً لا قرار له، ومعيناً لا ينضب لمن احترف التكسب بالحديث أو الكتابة عنها. هناك نوعان من الأخطاء تقترف بصورة منتظمة... هناك ? أولاً - الأخطاء الفردية، وهي ببساطة خروج الفرد على القانون أو النظام الذي تم الاتفاق عليه، والمشكلة هنا بسيطة. الأخطاء الأخرى وهي الأكثر خطورة وأشد تدميراً لبنية المجتمع لأنها تحدث على نطاق واسع، ولا تكاد يشعر بها أحد وهي الأخطاء المنهجية التي تحدث بصورة منتظمة، فاقتراف مثل هذه الأخطاء لا يصاحبه أي شعور بالذنب أو تأنيب الضمير، لأن الوعي يقصر عن إدراك الجوانب السلبية التي تنطوي عليها... كيف تشكلت هذه الأخطاء المنهجية؟ وكيف اكتسبت صفة السرية؟ هو سؤال جيد، ولكن الإجابة عليه معقدة وستختلف باختلاف المجيب. المشكلة العميقة التي تواجه كثيراً من المجتمعات النامية هي أن التركيز ينصب على الحديث عن الأخطاء الفردية ومحاولة معالجتها، وهو الأمر الذي تستطيع بالمنطق اكتشاف أنه لا طائل منه لأنه لا نهاية له. تكريس كل الطاقات للحديث عن هذا النوع من الأخطاء هو تقريباً هروب من مواجهة الأخطاء الأكثر تأثيراً في المجتمع، وهي الأخطاء المنهجية التي تنتشر كالخلايا السرطانية في جسد المجتمع، لا أحد يقلع عن ارتكاب الأخطاء المنهجية لأنه لا يشعر أصلاً بأنه أخطأ! لإعطاء مثال بسيط لهذا النوع من الأخطاء المنهجية أذكر هذه القصة الحقيقية التي كنت أحد شهودها، إذ وجدت نفسي مع مجموعة من الفلاحين كبار السن ممن يعرف عنهم تشددهم في أمور الدين، كان أحدهم يروي قصته عندما ذهب هو وابنه في شاحنتين لنقل محصول القمح في أحد الأعوام إلى الصوامع، وذكر أن دورية أمن الطرق أوقفت ابنه لأنه لا يملك رخصة قيادة عمومية تناسب الشاحنة التي يقودها، ويقول كانت الشمس قد شارفت على الغروب ووجد حيلة يستطيع بها تخليص ابنه من هذه الورطة، إذ ذهب وهمس في أذنه بأنه سيدعوهم لصلاة المغرب، وطلب منه أن يتأخر، وعندما يتأكد أن الجميع شرعوا في الصلاة عليه أن يتوجه لشاحنته ويفر، وبعد أن تناول رشفة من الشاي ابتسم ابتسامة عريضة، ثم أكمل قصته بنبرة فيها افتخار بم فعل قائلاً:"بعد أن أقمت الصلاة وصفّ أفراد الدورية خلفي كبرت ودخلنا في الصلاة، وما هي إلا لحظات وسمعت صوت الشاحنة وهي تتحرك". وأضاف:"تعمدت أن أطيل الصلاة لأمنحه فرصة أفضل في الهروب"، ويقول:"بعد أن سلَّمت أدرك أفراد الدورية الخدعة، فتوجهت إليهم أتوسل إليهم وأطلب منهم في تلك الساعة المباركة أن يسامحوه"، ولم ينس أن يذكر أنهم أعجبوا بفطنته ودهائه! انتهت حكاية صاحبنا وحل وقت صلاة العشاء وقام وصلَّى بنا، وأثناء الصلاة لم أتمالك نفسي من التفكير بما فعله وباستحسان الآخرين لما قام به، فعلى رغم أنه لم يتورع عن استغلال الصلاة حيلة لمنع أفراد الدورية من القيام بواجبهم، فإنهم لم يروا في تصرفه سوى دهاء وذكاء يستحقان الإعجاب، وهو في العرف الاجتماعي الذي لم يهذبه الدين"ذيب أمعط"كما يقولون. أتذكر التشدد الذي يبدونه في بعض الأمور وأتعجب، مبالغة وتعسف في أمور وتهاون واستغلال في أمور أخرى، الأمر ببساطة إذاً هو أن الدين يستخدمونه كما يستخدمون الحافلة، إذا كانت ذاهبة في الاتجاه الذي يقصدونه استقلوها وإلا انتظروا حافلة أخرى. هل أستطيع أن أخبرهم بذلك، بالطبع لا، فهم سيرون في ما أقوله بدعة لأنه يختلف عما تعودوا عليه، لذلك آثرت السلام وواصلت الصمت! فمثل هذه المفارقات تحدث يومياً من دون أن يستنكرها أو يستهجنها أحد. قصة أخرى من نوع الكوميديا السوداء التي تراها بالغة الطرافة وتكتشف بعد وهلة أنها أيقظت كثيراً من المشاعر المزعجة داخلك، حيث ذهب رجل بسيط طيب القلب حسن النية يسمى هذه الأيام خطأً"ساذج"إلى السوق واشترى كمية من التمر، وعندما وصل إلى منزله اكتشف أن معظمه فاسد، حتى أن الأغنام لن تأكله إلا مضطرة، عاد إلى السوق وبكل أدب قال للبائع إنك وجه خير والتمر الذي اشتريته منك فاسد وأود إعادته، فضحك البائع ونظر إليه نظرة استخفاف ورد عليه قائلاً:"لا تعلم - هداك الله - أن البيع والشراء غارات المؤمنين"، فاقتنع صاحبنا وشعر بالخجل لقلة فهمه وعاد بالتمر الفاسد إلى المنزل معتقداً أن الحكمة التي أخبره بها البائع هي حديث نبوي! كيف تقنع مثل هذا البائع بأن ما يسميه غارات المؤمنين هو غش وخيانة للأمانة. المحزن أن مثل هذا السلوك أصبح هو القاعدة، وأن الصدق والأمانة في التعامل باتا من مرادفات السذاجة وقلة الخبرة، فلم نعد نشعر بالمفاجأة حين يحاول صاحب المحل التجاري الذي صلى إلى جانبنا منذ لحظات في المسجد ووقفنا أمام محله ننتظر فراغه من أداء صلاة السنة أن يبذل كل ما في وسعه ليغشنا ويحتال علينا، وكأن سرقتنا هي من المباحات التي تبارك وتزيد بالإكثار من الصلوات والنوافل... فالدين أصبح حالاً روحية منفصلة عن السلوك، بل إنها عند البعض أضحت نقيضاًٍ للسلوك، فالزيادة في الأولى تبرر وتشرع النقص في الثانية. ما يبدو واضحاً أن البعض يعتقد أن الالتزام الديني ينحصر في تلك المسافة بين الإنسان وربه، أما ما يتعلق بعلاقاته مع الآخرين فالكر والفر هو الأسلوب الأكثر ملاءمة. أيضاً من المتناقضات العجيبة التي تمر مرور الكرام من دون أن يستهجنها أحد الإسراف في استخدام الأدعية الشفهية من دون أن يتسرب أي من المعاني العظيمة التي تحويها هذه الأدعية إلى السلوك، فتجد الشاب يحرص على قراءة دعاء الركوب قبل أن يستقل سيارته، وبعد ذلك يمارس كل أنواع التهور في القيادة ويبث الرعب في نفوس الآخرين من دون أن يشعر بأن ما يقوم به خطأ فادح. ولعله يعتقد أن قراءته للدعاء تمنحه الحصانة اللازمة ليفعل ما يريد، وبالفعل تستطيع وبكل أسف أن تقيس مستوى إيمان البعض من درجة التهور التي يبدونها أثناء القيادة، أيضاً من المفارقات المضحكة حرص البعض على الالتزام بترديد الأدعية المناسبة لتناول الطعام وللفراغ منه وهي عادة جيدة بالفعل، ولكنها تفقد معناها عندما يمارس الإسراف والتبذير بطريقة لا تعكس الشكر الحقيقي للنعمة. الالتزام فقط بترديد بعض العبارات اللفظية من دون أن يترجم ذلك إلى سلوك عملي ملموس هو مشكلة حقيقية يجب أن نتوقف عندها طويلاً، ما يبدو واضحاً هو أننا إذا أردنا البحث عن الأخطاء الحقيقية فإننا بحاجة لاستخدام المرآة وليس التلسكوب، فالأخطاء الأكثر فداحة وأشد تأثيراً هي في رؤوسنا وليست في سلوك الآخر. فنحن غالباً نحكم على أنفسنا بناء على أفضل نوايانا، ونحكم على الآخرين بناء على أسوأ ما نفهمه من سلوكهم... وهذا ليس عدلاً، ففي نهاية المطاف استبسالنا في الدفاع عن أخطائنا لا يثبت سوى أمراً واحداً وهو أنه ليس لدينا النية للإقلاع عنها. [email protected]