اختلفُ مع سعدالدين إبراهيم وما يمثّل في كل شيء تقريباً و"تقريباً" هذه ليست إلا من باب الاحتياط ضد الاطلاقات المزعومة. لا أوافق على منطلقاته النظرية ولا على استنتاجاته، ولا تعجبني منهجيته في معالجة المواضيع المطروحة على مجتمعاتنا ولا اسلوبه في تناولها، ولا علاقاته ولا الأطر التي يتحرك في دائرتها. بل يمكنني القول اني أناهض المرتكزات النفسية والقيمية التي تقف خلف كل هذا وتحرك الرجل. لذا أتوجس من كل ما يصدر عنه أو عن "مركز ابن خلدون للدراسات التنموية"، واعتبر هذا التوجس مشروعاً تماماً. إلا أن مداهمة منزل الرجل ومركز عمله وإعتقاله، كما يُداهم ويُعتقل مهربو المخدرات، متلبسين بالبضاعة التي بحوزتهم، أمر مستهجن. أما البيان الاتهامي الصادر عن السلطات المصرية كما نقلته الصحف، فسوءه من النوع الذي يصح فيه القول إنه في غاية الخطورة، وأنها خطورة تتجاوز سعدالدين إبراهيم ومركز ابن خلدون والقضية الخاصة بهما برمتها، لتطرح مسألة المعرفة: انتاجها واستخدامها وتوظيفها، ولتطرح أيضاً، وبالترافق مع هذه، مسألة علاقة المعرفة بالسلطة، وهي علاقة إشكالية معقدة، لكنها وطيدة... تتوسل السلطات المصرية، فيما نحن بصدده، أحد مستويات هذه العلاقة: المستوى الرقابي المباشر، لتبرير سلوكها، ساندةً اياه إلى السند الوحيد الذي يمنح السلطة شرعية القمع: المصلحة العامة. وأزعم ان الاسلوب الذي اتبع لتوقيف الرجل يرتبط بوثوق بمضمون البيان الاتهامي، أو أنه، بحد ذاته، أحد عناصر هذا البيان، أو هكذا يريد أن يكون. فلم يُستدعَ الرجل للمثول أمام القضاء ولا لجأ المرجع المعني في السلطة التنفيذية - ويُفترض به أنه يمتلك ما يكفي من أدلة وقرائن بدليل المداهمة والاعتقال أصلاً - إلى القضاء في آلية مدنية واضحة وعلنية. بل جرى التصرف وفق مقتضيات "أمن الدولة"، اي حيّز الاستثناء المخصص للأمور الجلل. أما البيان الاتهامي، فهو قطعة من الأدب السياسي الذي تدين كل كلمة فيه السلطة التي أصدرته. وهو، بخلاف نقطة وحيدة ذات وجاهة قانونية - عدم الرجوع إلى الجهات الرسمية للتصريح عن الأموال المتلقاة، مختلط مرتبك إلى حد يثير الشفقة. فالبيان يحار هو نفسه في وظيفته: هل هو يدافع عن الجهات الأجنبية التي مدّت الرجل بالمال فلم "ينفق الأموال على الأبحاث المزعومة"، أو أنه "تحايل" على هذه الجهات للحصول على مال، أم أنه يدين مضمون الدراسات المنجزة التي "تسيء إلى سمعة البلاد ومواقفها من القضايا الشائكة" وبالمناسبة، وفي اللغة السياسية الرائجة حلَّت "الشائكة" محل "الماء العكر"، أم أنه يفترض نتائج عملية للدراسات التي "تقدِّم معلومات خاطئة" استند لها الكونغرس الأميركي لإصدار قانونه حول "حرية الأديان في العالم" وكان "البرلمان الأوروبي ينوي الاستناد إليها لإصدار قرارات تسيء إلى مواقف مصر في المحافل الدولية"، لولا أن ربنا ستر، وتمكن رئيس مجلس الشعب من توضيح الصورة "الحقيقية" أمام البرلمانيين الأوروبيين، فعدلوا. وهو خلط عجيب يحمل على إفتراض المؤسسات والجهات الدولية من البراءة بحيث تحدد مواقفَها دراساتُ مراكز الأبحاث وتقرر المعرفة سلوكياتها. وفي هذا ما فيه من تنزيه للنوايا الأصلية لقوى الهيمنة العالمية الغاشمة، التي يحولها البيان إلى ضحية ل"المعلومات الخاطئة والمغلوطة" التي مُدت بها، فلا لمصالحها شأن ولا لستراتيجياتها التدميرية الناخرة في أجسام مجتمعاتنا شأن. أما القول إن الدراسات "تروج لمزاعم تهدد الوحدة الوطنية وتؤدي إلى الاساءة إلى العلاقة بين المسلمين والأقباط"، فهو الآخر يخلط المستويات ويضيّع الفاعل. والفاعل هو سنوات من تجاهل المشاكل القائمة حقاً في الواقع، ومن التراخي ازاء اجراءات وممارسات تنضح بالطائفية وبالتمييز وبالتعسف، مرة تسيباً واهمالاً، ومرات استسهالاً وارضاء لنوازع القوى الأكثر بدائية. وقد كشفت أحداث الكشح وليس سعدالدين إبراهيم عن عطب عميق، قائم في رحم دولة بعراقة مصر ومجتمع منصهر قدر انصهار المجتمع المصري على مر التاريخ. وفي مجال آخر، يعيب البيان على سعدالدين إبراهيم نيته "التدخل" في انتخابات تشرين الثاني نوفمبر النيابية المقبلة، عبر انشائه هيئة عامة لمراقبة الانتخابات. وفي بلدان الأرض تقوم هيئات أهلية لمراقبة برامج التسلح، ويمكن لأي مواطن أن يطّلع على ملفه لدى البوليس، بل يمكنه أن يطلب تصحيح بعض البيانات! أما أعجب ما في البيان الاتهامي فهو ما بدا أنه خاتمته. فمركز ابن خلدون، بحسب البيان، قد "مدّ نشاطه إلى تونس وفلسطين وبعض الدول الخليجية، لاستقطاب معارضين بزعم كونهم باحثين، لإعداد تقارير عن الأوضاع الداخلية تضر بمواقف هذه الدول لدى المؤسسات الدولية وتسيء لعلاقاتها بمصر". و"بزعم" هذه هي بيت القصيد. فالبيان يقرر هكذا ان المعارض لا يمكنه أو لا يحق له أن يكون باحثاً، لأن أبحاثه عن "الأوضاع الداخلية" عما كان يمكن ان تكون يا ترى ستكون مسيئة... الخ، ولعل الاستنتاج المناسب والحال تلك هو الدعوة إلى استقطاب الموالين أو - ولمَ لا - الاكتفاء بما تنتجه السلطات نفسها عن "الأوضاع الداخلية"، فنرفل، عندها، في النعيم. يؤدي تتابع وتراكم هذه النقاط إلى إقامة التباس كبير حول طبيعة جرم سعدالدين إبراهيم: فهل هو يحاسب على مخالفات قانونية أم آراء أدلى بها ودراسات أجراها أو على نُظم اجرائها، وهي مهما كانت تظل آراء، أي مما لا تترتب عليه مسؤولية جرمية، سواء أكانت لامعة مبدعة أو وقعت في الخطأ أو التحامل أو التفاهة. يدرك الجميع ان الجمعيات الأهلية ومراكز الأبحاث التي نبتت كالفطر في بلادنا في السنوات الماضية، يحوي بعضها على الكثير مما يتعدى أو يجانب مهامها المعلنة. وان بعضها هذا مراتع لاشكال جديدة من الفساد، خطورته انه يسفّه ميادين تحتاجها مجتمعاتنا بقوة: فشبهة خدمة أغراض استخباراتية من وراء نشاطات بعض هذه الهيئات يؤدي إلى تعميم الريبة حيالها جميعاً لدى الوعي العام، كما أن تحول بعض مجالات العمل هذه إلى وسائل يستخدمها أصحابها للاثراء الشخصي وللعيش وفق نمط حياة مرفهة، يدفع الوعي العام إلى الشك في غايات مثل هذه الأعمال وإلى اعتبارها - جميعاً - حججاً لتحقيق مآرب شخصية. وفي المقابل فان غياب أطر الرقابة والمحاسبة في بلداننا، وغياب المقاييس والآليات المتعلقة بسلطة ممارسة الرقابة، وسيادة منطق الانتقام والاعتباط عند ممارسة اي شكل من المساءلة، هذه كلها تحمل على فقدان الثقة العامة بالسلطة التي تحاسب، وعلى اعتبار الجميع فاسداً واعتبار الصراع بين تلك الهيئات والسلطة يدور على صعيد لا يخص سواهما مع انه يمس قضايا الحقل العام. ولم يفعل الاستهداف الاستعماري المركّز لمنطقتنا، ووجود إسرائيل، إلا مفاقمة الأمر، كما لم تؤدِ هزائمنا أمام الاستعمار وإسرائيل وأشكال عجزنا المختلفة عن تحقيق الطموحات الوطنية والتنموية إلا إلى مزيد من انهيار الثقة بالنفس، والريبة المعممة. ولا يوجد في أي مكان في العالم، ولا تبيح أكثر الأنظمة ديموقراطية أو ليبرالية حقاً مطلقاً بالحرية يبرر "حرية" التجسس أو "حرية" الفساد. لكن تلك الأنظمة تمتلك اطرا وآليات رقابة صارمة وإنما معلنة الأصول والمقاييس، موضوعية. وهناك في المقابل، وللرقابة على هذه الأطر والآليات، صحافة حرة إلى حد بعيد، وجمعيات مجتمع مدني فعلية، تشكّل جميعها "حدود" السلطة. وتكمن صيانة الحرية في هذه البنية وليس في خطاب إنسانوي متحلل من الاشتراطات، مجهض لكل معنى، يتحصن بأخلاقية ساذجة وشديدة السطحية، فيعجز عن القيام بأغراضه. تلك هي مشكلة ما يحدث مع سعدالدين إبراهيم. فالسلطة التي تحاسبه لا تمتلك آليات ومقاييس المحاسبة، بدليل الأسلوب الذي تلجأ إليه ومضمون البيان الاتهامي الذي تذيع والذي يخلط بين كل المستويات، فلا يعود مفهوماً إذا كان توقيف الرجل نابعا من تجسسه أم من ارتشائه أم من تناوله لمسائل ومواضيع تعتبرها السلطة حساسة، وتغيظها الاشارة إليها، فكيف اذن تناولُها، بل مخالفة تحليلات السلطة لها؟ ويهدف الخلط إلى رفع "جرم" تناول هذه المسائل و"جرم" الاختلاف مع السلطة حولها إلى مصاف شبهة التجسس والرشوة. والمجتمع المدني الذي ينتمي إليه إبراهيم والذي يتحرك للدفاع عنه، ليس نخبوياً وحسب، كما يقال، بل هو يعاني من انعزاله في موقع فوقي في أغلب الحالات وفي اختراق نفس أمراض السلطة له. فلا يبدو بديلاً عنها. تكمن المشكلة في ضعف الشرعية المزدوج هذا تحديداً. في سلطة تدافع عن سلطتها وليس عن المصلحة العامة، كما تدعي، وهي تفعل بنزق مأزوم، وفي "معارضات" لا علاقة لها بالتغيير ولا وشائج تربطها بهموم الناس، ولا صدقية مؤسسة لها عبر ذلك كله. فمن يحاسب من، وواحدهما أسوأ من الآخر!؟