عاماً بعد عام يفقد شهر رمضان الكريم جزءاً - إن لم يكن معظم - من بريقه ووهجه وروحانيته التي تميزه عن باقي الشهور، إذ لم يعد ذلك الشهر الذي ينتظره الجميع بشوق ولهفة، لينهلوا من بركاته الكثيرة وإفاضاته الجليلة، وينعموا بأجوائه الإسلامية والإنسانية العطرة، ما يسد رمقهم ويشفي غليلهم بعد شهور طويلة من الجدب والقحط سواء على الصعيد الديني أو الإنساني... لم يعد شهر رمضان الكريم في الأعوام الأخيرة ذلك الزائر العزيز الذي يُعطر بنفحاته وبركاته أجواء الكون الواسع، ويرسم على شفاه المسلمين ابتسامات الفرح والسرور، وينثر البهجة والمتعة والحبور والتفاؤل بالخير، لم يعد رمضان شهراً للصيام والقيام والنقاء والطهر والعفاف والصبر والتحمل، كما كان في الأمس. لم يعد رمضان شهراً للأعمال الصالحة والعطاء والبذل والسخاء والإيثار، ولم يعد شهراً للتقارب والترابط والتراحم والتزاور، للأسف لم يعد كما كان، إذ لم تبق من كل تلك القيم السامية النبيلة الجميلة ما يبعث الأمل بأن رمضان هو رمضان الأصيل الذي ألفناه ونتشوق لمقدمه! قد أكون من الأجيال المحظوظة السعيدة، التي شهدت رمضان الفضيل بكامل بهجته وقدسيته وعبقه وروحانيته، فما زلت أتذكر كيف كانت العائلات تستعد لقدوم هذا الشهر الفضيل، وكيف كانت تخطط - بكل ثقة وتفاؤل بالخير القادم والسعد الآتي لاستقبال - أيامه ولياليه صياماً وقياماً في طلب المغفرة والطاعة وتلاوة القرآن، والإكثار من الدعاء ومحاسبة النفس والتزود بصالح الأعمال... وما زلت أتذكر الأهازيج والأناشيد الجميلة الخاصة بهذا الشهر الكريم التي تتوزع على طول أيامه، ابتداءً من مقدمه الميمون ومروراً بليلة النصف أو ما يُطلق عليها ب القرقيعان أو الكريكشون في غالبية دول الخليج، ثم لياليه الأخيرة التي تسبق العيد. إن شهر رمضان لمن هم من جيلي أو من الأجيال السابقة يُعتبر وقفة صادقة مع النفس اللوامة، محاسبة على سويعات التقصير التي تجاوزنا خلالها عن حق من حقوق الله علينا من العبادات... ذلك هو رمضان الأمس الذي أعرفه ويعرفه كل من عايشه بكل عبقه وعطره وذكرياته الجميلة التي مازالت محفورة في ذاكرة إنسان هذا الوطن، أما رمضان اليوم فشيء آخر لا علاقة له بقيمة وعبادة وقدسية هذا الشهر العظيم، لم يعد رمضان شهراً للعبادة والصوم والطاعة والصلاة والقيام والترابط والتراحم والتزاور كما عرفناه وعايشناه، للأسف لم يعد كذلك، فقد أصبح - ويا للأسف - شهراً للمسلسلات الماجنة والسهرات الخليعة والخيم "الرمضانية" المليئة بكل ما لذ وطاب من الأكل والشرب وخلافه وضع ألف خط تحت خلافه ما يُفقد هذا الشهر الفضيل روحانيته وقدسيته! لقد بعدنا بقصد أو من دون قصد - لا فرق ? خلال هذا الشهر الكريم عن كل مضامين وأهداف الخير والعبادة والترابط والتراحم وأسباب الفرح والبهجة البريئة، وأخذناه - أي رمضان ? على أنه مناسبة للتسلية والمتع الزائفة والمسابقات والسهرات البعيدة كل البعد عن دور العبادة، ما شوه قدسية هذا الشهر الكريم الذي أنزل الله فيه القرآن، الصوم الذي قال الله عز وجل أنه له، وأنه هو الذي يجزي الصائمين. ها نحن نزداد عاماً بعد عام تفريطاً في تكريم رمضان بالانقطاع للعبادة فيه بتلاوة وختم القرآن العبادة، مثلما نزداد بعداً عن أجمل وأحب قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا النبيلة الجميلة، لتحل محلها قيم وعادات دخيلة علينا لا تمت لحضارتنا أو لتاريخنا وهويتنا بأية صلة. رمضان بين الأمس واليوم إشكالية معقدة تدق ناقوس الخطر لتعلن وبصوت عالٍ يسمعه القاصي قبل الداني، يقول "حذارٍ من أن نخسر ديننا الذي ذكرنا فيه ربنا بأننا خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر". فاضل العماني [email protected]