تعتبر باكستان من الدول الإسلامية المهمة استراتيجياً في القارة الآسيوية، خصوصاً بعد ما تسميها الولاياتالمتحدة الأميركية"الحرب على الإرهاب"، إذ برزت أهميتها بشكل كبير خلال الهجوم الأميركي على أفغانستان وإسقاط حكومة طالبان التي كانت مدعومة من باكستان بشكل مطلق، والتي بدأت تدفع ثمن تخليها عن هذا الدعم والانحياز للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها على شكل عدم استقرار سياسي وصراع مذهبي، نتمنى ألا يصل لمرحلة حرجة تفقد معه باكستان أهميتها ومقوماتها في المحيط الجيوسياسي الآسيوي الغربي. لقد وصلت الأزمة في باكستان إلى مرحلة حرجة بعد اقتحام قوات الأمن الباكستانية للمسجد الأحمر، إذ أعلنت الجماعات المناوئة لحكومة الرئيس مشرف بعد الاقتحام الجهاد واستهداف قوات الجيش في عملياتها العسكرية، خصوصاً في منطقة وزيرستان، التي تعتقد الولاياتالمتحدة الأميركية وجود أسامة بن لادن وباقي قيادات القاعدة فيها، علماً بأن الأزمة الباكستانية كانت مرشحة للتفاعل منذ فترة طويلة، إذ كانت هناك عوامل عدة أشعلت الأزمة بشكل كبير، منها: محاولة قوى المعارضة الضغط على الرئيس مشرف للتخلي عن قيادة الجيش بعد انتخابه رئيساً للجمهورية من البرلمان الباكستاني، إذ لا يمكن الجمع بين الرئاسة وقيادة الجيش، وهو ما تقوله قوى المعارضة في مطالبها، فإما قيادة الجيش أو رئاسة الجمهورية، إلا أن السؤال هو: لماذا الإصرار من المعارضة على تخليه عن قيادة الجيش، بينما يرفض الرئيس مشرف هذا الطلب؟ نحن نعرف أن الرئيس مشرف كان قائداً للجيش عندما أطاح بحكومة نواز شريف، لذلك نجد أن الدعم الرئيس الذي يحظى به الرئيس مشرف هو من الجيش، كما أن الصراع المذهبي الموجود في باكستان هو أحد العناصر المؤثرة في الأزمة الباكستانية، إذ أججه إسقاط حكومة طالبان ذات الغالبية الباشتونية التي كانت تعتبر الحليف الرئيس لها، والمدعومة من قبائل الباشتون في باكستان، ما زاد غضبهم بشكل كبير على الحكومة الباكستانية واتهامها بأنها تخلت عن طالبان وعن أشقائهم الباشتون في أفغانستان، الذين كانوا يدرسون في المدارس الدينية في باكستان بمن فيهم زعيمهم الملا عمر وتربطهم معهم علاقات قوية من القربى. أما بالنسبة للصراع السياسي، فقد كان عاملاً رئيساً في التأثير على الأزمة الباكستانية المتفاقمة، إذ كانت باكستان تحظى باستقرار سياسي إلى حد ما أثناء فترة الانتخابات البرلمانية التي كانت تتم بعد وفاة الرئيس ضياء الحق، وتم إجراء انتخابات برلمانية عدة، تعاقب على الفوز فيها حزبا الشعب برئاسة بنازير بوتو، وحزب الرابطة الإسلامية برئاسة نواز الشريف، إلا أن تشكيل حكومة طوارئ عسكرية برئاسة الرئيس مشرف وعزله نواز شريف كان مؤشراً على بداية الصراع السياسي بين مختلف القوى الباكستانية، خصوصاً القوى الإسلامية وغيرها من القوى الأخرى التي بدأت تظهر الآن وتتحالف لإسقاط حكومة الرئيس مشرف، كما أن عزل رئيس المحكمة العليا القاضي افتخار محمد شودري كان عاملاُ مهماً في الأزمة الباكستانية، لما يمثله من تدخل الرئيس مشرف في القضاء، وهو ما يمنعه الدستور، إذ إن عزل رئيس المحكمة العليا ليس من صلاحيات الرئيس، والذي شكل إعادته من قضاة المحكمة العليا ضربة للرئيس، ومشجعاً للقوى الأخرى على استغلال هذا الموقف لمصلحتها، مثل نقابة المحامين والقضاة، إضافة إلى قوى المعارضة التي كانت تريد مثل هذه الفرصة التي أتاحها قرار العزل غير الصائب في هذا الوقت بالذات، إذ تواجه باكستان ظروفاً سياسية وأمنية لا تحتمل القرارات غير المدروسة التي ثبت عدم صحتها في ما بعد. أما بالنسبة لاقتحام المسجد الأحمر فقد شكل منعطفاً حرجاً في الأزمة الباكستانية، إذ أمر الرئيس بإنهاء الاعتصام في المسجد الأحمر بالقوة، ما أثار حفيظة القوى الإسلامية المعارضة، معلنة الجهاد على حكومة الرئيس مشرف، ومتهمة إياه بتلقي الأوامر من قوى خارجية، فبدأت في استخدام العنف والعمليات الانتحارية ضد المؤسسات العسكرية، خصوصاً الجيش في مختلف المناطق والأقاليم، وعلى وجه الخصوص في منطقة وزيرستان المتاخمة لأفغانستان... إن مهاجمة الجيش مؤشر خطر في الأزمة الباكستانية، إذ إنه يمثل المؤسسة التي تجمع الباكستانيين جميعاً. إن مشكلة القبائل في وزيرستان بدأت في الظهور على السطح بشكل قوي منذ إسقاط حكومة طالبان في أفغانستان من القوى الغربية بقيادة الولاياتالمتحدة، إذ كانت تتمتع هذه المنطقة بحكم ذاتي منذ استقلال باكستان، وتقوم القوى المحلية القبلية بإدارة البلاد والمحافظة على أمنها، مع الإقرار من الحكومات الباكستانية المتعاقبة على عدم دخول الجيش لهذه المنطقة، بينما تشهد هذه المنطقة اليوم صراعاً دموياً بعد دخول الجيش إليها، إضافة إلى التهديد الأميركي المستمر بقصفها في حال ثبوت أدلة على وجود عناصر للقاعدة فيها، محرجة الرئيس مشرف بشكل مستمر أمام الرأي العام الباكستاني، ومضيفة عاملاً آخر للأزمة الباكستانية المتفاقمة. تعتبر مشكلة كشمير والصراع التاريخي مع الهند عنصراً إضافياً يضغط على الرئيس مشرف من القوى المناوئة لأي اتفاق سلام مع الهند لا يتضمن استقلال جامو وكشمير، وهو ما تطالب به مختلف القوى الباكستانية، خصوصاً الإسلامية منها، كما أن إيقاف العالم النووي عبد القادر خان، رمز باكستان في الحصول على سلاح الردع النووي، رهن الإقامة الجبرية اعتبرته المعارضة رضوخاً لضغوط خارجية أضعفت موقف الرئيس مشرف أمامها وأمام الرأي العام الباكستاني. لقد أضحى الرئيس مشرف يواجه أزمات داخلية كبيرة، فأصبح واقعاً بين مطرقة الولاياتالمتحدة الأميركية التي تطالبه بدعم حربها على الإرهاب من دون تحفظ، وسندان قوى المعارضة المناوئة له، معززة الشكوك بأن باكستان ستقع في أزمة سياسية كبيرة إذا استمر الوضع على ما هو عليه، ولا يستطيع أحد التنبؤ بتأثيراتها وانعكاساتها الإقليمية والدولية. إن دور الرئيس مشرف هو البحث عن حلول للأزمة الباكستانية عبر الاتفاق مع الأحزاب الرئيسة في باكستان وإشراك الجميع في الحل، خصوصاً رئيسي الوزراء السابقين نواز شريف وبنازير بوتو، مع بقية القوى الأخرى الفاعلة، حماية لباكستان التي تعتبر القوة النووية الإسلامية الوحيدة، وعامل التوازن الاستراتيجي مع الهند وغيرها من دول غرب آسيا، في وقت تتشكل قوى إقليمية أخرى. إن زيارة الرئيس مشرف لكل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والتقاءه مع كل من نواز شريف وبنازير بوتو - إن صدقت الروايات- هي خطوة إيجابية وموفقة وتصب في الطريق الصحيح لحل الأزمة الباكستانية بعيداً عن التدخلات الدولية، خصوصاً ونحن نسمع عن اتصالات بين هذه الشخصيات ودول كبيرة، إذ إن من يتعامل مع الدول العظمى عليه أن يكون حذراً، لأن ما يهمها هو مصالحها أولاً وأخيراً بغض النظر عما سيحدث من تأثيرات للدولة المتعاملة معها. إن الرئيس مشرف عليه مسؤولية تاريخية لإيجاد حل سياسي للأزمة الباكستانية والاقتداء بديموقراطية جارته الهند التي احتفلت، كما احتفلت باكستان قبل أيام، بالذكرى ال61 لاستقلالهما عن بريطانيا. * عضو مجلس الشورى.