والدي، حفظه الله، متابع جيد لما أكتبه، ودائماً ما يتصل بي بعد كل لقاء أجريه أو قصيدة أكتبها أو مقال أنشره، مادحاً أو متحفظاً أو قادحاً، وأحياناً يستعيض عن الاتصال برسائل تشرح وجهة نظره وتشرح لي صدري. يفعل ذلك منذ سنوات، لكن اتصاله الأخير الذي جاءني بعد مقالي الذي نشرته في هذه الصحيفة قبل أسبوعين تحت عنوان"العبيلة وشوالة تحتاجان أيضاً لإعلام خاص"كان مغايراً لاتصالاته السابقة ومختلفاً جداً، صوتاً وموضوعاً! فبينما كنت أغط في نوم عميق صبيحة يوم الأربعاء الماضي الذي نشرت فيه المقال، فاجأني جوالي ? الذي لم أتعود على إغلاقه ? برنين متصل، تجاهلته في المرة الأولى، اعتقاداً مني بأنه من صديقي الذي اتخذ للتو مكانه في مكتبه ويريد أن يحكي لي ? كالعادة - مشكلته الصباحية المتجددة كل يوم مع مديره... استمر الرنين جولة ثانية ولما لم أرد، أكمل الجولة الثالثة والرابعة والخامسة، وعند السادسة نهضت واتجهت لجوالي البعيد عن سريري فإذا برقم والدي يظهر على شاشة الجهاز، ضغطت زر الإجابة فبادرني بالسلام وقبل أن أرد عليه بأحسن منه، سألني عمّا إذا كنت أنا من كتب مقال اليوم أم لا؟ ضحكت وعرفت أن أبي يريد أن يبدأ تحقيقاً معي حول ما جاء في المقال، لأن هذه طريقته التي أعرفها والتي يستخدمها دائماً في ابتداء سلسلة التحقيق، أجبته بنعم، فقال وهل من الأمانة الكتابية والصحافية يا عبدالله أن تحشو مقالك بمعلومات غير صحيحة من أجل أن تدعم وجهة نظرك التي تريد طرحها؟ ماذا تعرف عن التلفزيون السعودي، وأنت الذي لا تفارق"قناة العربية"تلفزيوناتك في البيت والمكتب وحتى الاستراحة؟ وقبل أن أسأله عن المعلومات غير الصحيحة التي تحدث عنها، استكمل حديثه قائلاً:"ثم هل من اللائق أن تتحدث إلى رجل مسؤول في سن أخيك الأكبر بهذه الطريقة التي توحي بأنك مُدعٍ وهو مُدعى عليه؟ أنزل الناس منازلها يا ولدي وتحدث إليهم بما يليق بهم، ولا تكن كالذي يتكلم بالنبرة نفسها أمام كل الناس، فلا يُعرف نبله من جهله، ولا وضاعته من كبريائه!". وحينما استجمعت شتاتي لأرد على كل نقاطه التي أثارها، سبقني بالقول بأن عُد إلى النوم الآن، وأرسل مع دعوته لي إلى النوم تهديداً صغيراً يقول :"لا تتعوّدها"! شكرته وقبلت جبينه الافتراضي في جهاز جوالي، ووجدت أنه لزاماً علي أن أشرح لأبي هنا في هذا المقال وجهة نظري الحقيقية التي ربما غابت عنه في"عجاجتها"بسبب حماستي الزائدة التي لم تكن في موضعها... ربما كان في كلامي عن"نجدية"التلفزيون السعودي بعض المبالغة، التي ابتعدت بي عن الموضوعية، لكن هدفي من وراء كل ذلك كان لفت الانتباه إلى أن لكل منطقة من مناطق وطننا الكبير حاجاتها الإعلامية التي تختلف من منطقة لأخرى، تبعاً للتعدد الثقافي والاجتماعي اللذين يميّزان كل منطقة. وكنت أرى أنه لو تم إطلاق تلفزيونات المناطق بحيث تُخصص قناة تلفزيونية لكل منطقة من مناطقنا الأربع عشرة، لتمكنا من بناء جدار حماية يرد شر بعض القنوات الخاصة التي تحوي مضموناً قبلياً أو مناطقياً، ويقوم عليها أناس لا علاقة لهم بالإعلام النظيف لا من قريب ولا من بعيد، أناس يعملون على ضرب وحدتنا الوطنية عن عمد وسابق إصرار وترصد، أو عن سابق جهل ولاحق سذاجة! أما خلاصة مقالي السابق والذي كان هو المحرض الأكبر لكتابة ما كتبت، فكانت إنشاء مدينة إعلامية في المملكة على غرار المدن الإعلامية الموجودة في دبي وعمان والقاهرة، بحيث تضم كل القنوات السعودية الخاصة لتعمل عن قرب، وفي هذا فوائد كثيرة لا تُحصى، لعل في مقدمها فائدتين كبيرتين يستقيم بهما واقع الإعلام السعودي الخاص اقتصادياً ومهنياً، الأولى هي: وضع زيتنا في دقيقنا، كما يقول المثل، بحيث تدور أموالنا داخل البلد، ما سينتج عنه فوائد كثيرة، يستطيع الاقتصاديون إحصاءها أكثر مني. والثانية - وتعنيني أكثر ? هي: يجب أن تعمل هذه القنوات تحت شروط معينة تضعها وزارة الإعلام، بحيث يقف على رأس هذه الشروط وجوب الالتزام بالبُعد عن كل ما من شأنه تجزئة الوطن وضرب وحدته العظيمة، التي قيّضها الله لهذه الأمة بفضله الكبير، ثم بفضل المؤسس العظيم الملك عبدالعزيز، رحمه الله رحمة واسعة. ذكرت في مقالي السابق أن"الصاحي والمجنون"قد دخلا سباق الفضاء، في زمن قد يصعب على المشاهد العادي فيه فرز أيهما المجنون وأيهما الصاحي، بسبب انهمار القنوات الفضائية كالأمطار، وتلبسها إلاّ ما قل لبوساً واحداً يسر الناظر غير الخبير! هناك المشاهد الطفل، وهناك المشاهد المراهق، وهناك المشاهد الذي لا يستطعم السم في العسل، وعلينا إذا ما أردنا حماية هؤلاء كلهم من قلب الحقائق والأفكار المغلوطة والتزييف الذي دأبت بعض القنوات على العمل به، أن نُدخل"الصاحي"إلى قلب الوطن في المدينة الإعلامية المقترحة، وأن ننفي"المجنون"إلى منافي الإعلام، مع إيقاف إمدادات الإس أم إس عن حصالته الفضائية حتى تذبل نبتته فتموت، فيريح ويستريح. هذا مجمل ما أردت قوله، انطلاقاً من إيماني بوحدة وطني التي لا يمكن أن أُسهم في مسها بسوء بأي شكل من الأشكال وتحت أي ظرف، ولعل حماستي - كما قلت في مقالي السابق - قد نأت بي عن عين الحقيقة وأوردتني الخطأ الذي يشرفني الاعتذار عنه في حضرة أبي والوطن، وآمل أن يكون هذا المقال الإيضاحي سبباً في إطفاء غضب والدي عليّ، وكلي أمل في أن استقبل منه، بعد نشر هذه السطور، اتصالاً يطمئنني أو رسالة تشرح لي صدري. ولا يفوتني في الأخير أن أشكر الدكتور عبدالله الجاسر وكيل وزارة الإعلام على رده الشافي والوافي على مقالي السابق، والذي ضمنه الكثير من التطمينات التي ينشرح لها صدر كل إعلامي سعودي. * إعلامي سعودي http://abdullahnassir.ektob.com