شدد الكاتب الإسلامي والأكاديمي في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، الدكتور مسفر بن علي القحطاني على أن"فقه العمران"عاني من تجاهل وغفلة الفقهاء والباحثين الشرعيين في معظم العصور الإسلامية. بل اعتبرهم تجاوزوا إلى إلغاء هذا الجانب من الفقه و?"إنكاره أحياناً من فقه شريعتنا الغراء، واعتباره من مشاغل الدنيا الفانية على حساب الآخرة الباقية". ورأى أن ذلك يفسر ما اعتبره"هوّة كبيرة بين تاريخٍ مضى، برزت فيه أنواع العلوم والمعارف المختلفة، وازدهرت فيه مناحي العمران والبناء، وتاريخٍ تفنن في تحقير الدنيا نظرياً، واقتات على فتات الأمم الأخرى واقعاً عملياً". وفي دراسة خص بها"الحياة"وسماها"المدخل إلى فقه العمران"، عزز رؤيته النقدية بآراء فقهية وفكرية، استخلص منها أهمية العمران كعلم بشري، يمكّن الإنسان من تحقيق إحدى الغايات التي خلق من أجلها، وهي عمارة الأرض، وفي ما يأتي نص الدراسة: علم العمران البشري من العلوم الإنسانية التي أدت إلى نقلةٍ نوعيةٍ في كتابة التاريخ، وكان شرف هذا الكشف وتأسيس هذا العلم منسوباً لأبي زيد عبدالرحمن بن محمد بن خلدون المتوفى سنة 808ه، وذلك في مقدمة مؤلفه التاريخي المشهور"كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، ولم يكن لهذا العلم الجديد مزيد بحث وتصنيف أو شرح وتعريف ممن جاء بعده من علماء المسلمين، حتى بعض تلامذته كالمقريزي أو من جاء بعده بقليل كابن الأزرق فقد عرفوا أهمية فكر ابن خلدون التاريخي، غير أنهم لم يضيفوا شيئاً يذكر على ما اكتشفه شيخهم من علم. أما في العصر الحديث فذاع هذا العلم واشتهر مكتشفه، وتوالت بعده المصنفات والنظريات الغربية، التي أثمرت فهماً إنسانياً لطبائع المجتمعات، وأثرها في تاريخ الأمم والشعوب، وكان أشهرهم بحثاً وتقصياً هو"دوركايم"مؤسس علم الاجتماع الحديث وقبله"اوغست كونت"الذي بدأه من خلال الحديث عن الفيزياء الاجتماعية، ثم أطلق عليه لقبه الخاص السوسيولوجيا، والذي انسحب بعد ذلك كعَلَمٍ عليه في الغرب والعالم أجمع، يقول المؤرخ البريطاني الشهير توينبي عن ابن خلدون والدور العلمي لمقدمته:?"قد أدرك وتصور وأنشأ فلسفة للتاريخ، هي بلا شك أعظم عمل من نوعه خلقه أي عقل في أي زمان ومكان". فلسفة العمران عند ابن خلدون أما عن فلسفة ابن خلدون حول علمه الجديد العمران البشري فقال عنه انه:?"ذو موضوع، هو العمران البشري والاجتماع الإنساني وذو مسائل، وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحول لذاته واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم، وضعياً كان أو عقلياً". وقام ابن خلدون بتحرير الأساسات المنطقية لكل علم برهاني، إذ يَعدُّ اكتشافه من هذا القبيل، الذي لم يسبق إليه أحد، فأخذ يقرر في بداية المقدمة أسس المناطقة في التعريف بالعلوم البرهانية، وأنها مبنية على الأركان الأربعة الآتية: الموضوع والأعراض الذاتية والمسائل والمقدمات. ويرى ابن خلدون:?"انه شرح فيه من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من الأعراض الذاتية، وما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها". ثم قال في بيان غايته:?"وهو علم يحوّل غاية المؤرخ من سرد الأخبار وتصيد الغرائب إلى السعي إلى فهم الاجتماع الإنساني، الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على البعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال". وهذا المنهج من النظر في تحليل واقع المجتمعات، ودرس أسباب التغير والتبدل في أحوال الفرد والجماعة، يعتبر من أعظم مصادر العمل الإصلاحي لأي مجتمع، يُراد تغيير ظروفه وعلاج أزماته، ولعل عُزلة ابن خلدون في قلعة ابن سلامة في الجزائر بعد نكبات عدة شهدها في الأندلس والمغرب العربي، قادته لتلمس المخارج ومراجعة طبائع العمران وتأثيرها على بني الإنسان. والحقيقة أن الغرض من سوق مقدمة تعريفية لعلم العمران الخلدوني، هي من أجل ذكر العلاقة بين ما اكتشفه ابن خلدون من اثر الطبائع والأحوال وفهم الاجتماع الإنساني، إلى تحويل هذه المؤثرات والمفاهيم إلى آليات عمل ومشاريع بناء وعمارة للأرض، تسهم في صياغة فعل إنساني يتجاوز انحطاط الواقع وغموض المستقبل، لهذا كان الأليق بعلم العمران أن يربط بعلم الفقه، للتعريف بخطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين من حيث الواجب المراد فعله أو الندب إليه، أو المحرم المراد اجتنابه أو التنزه عنه. فالداعي الأساس من إيراد هذا الموضوع، هو إعادة الربط بين الفقه الحامل للعمل وبين المفهوم المجتمعي المبيِّن لطريق العمل الصحيح، من خلال إدراك طبيعة التغيير وفهم مجالات الإصلاح المنشود والعمران الحضاري المطلوب، وفق كل الأحوال والظروف التي يعيشها الفرد المسلم في العصر الحاضر. و?"فقه العمران"هو من أنواع الفقه الغائب لعقود من الزمن، اندثرت كل محاولات التنظير والترشيد لفقه يحمل المسلم إلى عمارة الأرض وبنائها، وتأسيس نهضة مدنية لمجتمعاتها. الغفلة عن"فقه العمران" وللأسف أن الغفلة عن هذا الفقه ليست في بيانه والتعريف به فحسب، بل تجاوز إلى إلغائه وإنكاره أحياناً من فقه شريعتنا الغراء واعتباره من مشاغل الدنيا الفانية على حساب الآخرة الباقية! وهذا ما جعل الهوّة كبيرة بين تاريخٍ مضى برزت فيه أنواع العلوم والمعارف المختلفة، وازدهرت فيه مناحي العمران والبناء، وتاريخٍ تفنن في تحقير الدنيا نظرياً، واقتات على فتات الأمم الأخرى واقعاً عملياً. ومن أجل إثارة الذهن المسلم في إعادة نصاب هذا الفقه من العمل والبيان في أفعال المكلفين، سأبين أهم ملامح هذا الفقه وأهميته في الشريعة الإسلامية من خلال النقاط الآتية: أولاً: ان الله تعالى خلق الإنسان في الحياة الدنيا لغايتين: عبادته سبحانه كما شرع، وعمارة أرضه كما أمر، وكان الخطاب القرآني يرتكز على مفاهيم وأشكال العبادة أكثر من تركيزه على آليات العمارة، وذلك أن العبادة تلبستها صور عدة من الشرك والانحراف أدت إلى فساد الحرث والنسل، ولأن في صحتها وقوامها المطلوب قواماً للحياة ومعاشاً للناس، ثم إن عمارة الأرض تتوافق مع ما جبل الله تعالى الإنسان عليه من حب التملك والتنافس والتكاثر، فهو يحتاج إلى الاعتدال في طلبه والامتثال في عمله ولا تصلح حاله إلا بشرعٍ مسدد ووحي ملزم يهذّب طبعه من الانحراف والتجاوز. ولا يعني ذلك أن القرآن قد أهمل الطلب أو نفاه، بل قد جاء في أكثر من أية تعزيز القيام بالعمارة، كقولة تعالى:?وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. [ البقرة 30] وقال البيضاوي في تفسيرها:?"والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه، والهاء فيه للمبالغة، والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام لأنه كان خليفة الله في أرضه، وكذلك كل نبي استخلفهم الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم". وقال ابن عاشور مؤكداً معنى العمارة:?"فالخليفة آدم وخَلَفِيَّتُه قيامُه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقينُ ذريته مراد الله تعالى من هذا العالم الأرضي". وقال تعالى:?هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا. [هود61] قال الطبري، مؤكداً معنى العمارة في الآية:?"واستعمركم فيها، يقول: وجعلكم عُمَّاراً فيها"، وقال البيضاوي:?"واستعمركم فِيهَا عمركم فيها واستبقاكم من العمر، أو أقدركم على عمارتها وأمركم بها"، فالإنشاء من الأرض هو في خلق آدم من الأرض، لأنّ إنشاءه إنشاء لنسله، وإنّما ذكر تعلّق خلقهم بالأرض لأنّهم كانوا أهل غرس وزرع، كما قال تعالى:?أتتْركون فيما هاهنا آمنين في جنّاتٍ وعيونٍ وزروعٍ ونخلٍ طلعها هضيمٌ. [الشعراء: 146]، ولأنّهم كانوا ينحتون من جبال الأرض بيوتاً ويبنون في الأرض قصوراً، كما قال في الآية الأخرى:?وبوّأكم في الأرض تتّخذون من سهولها قصُوراً وتنحتون الجبال بيوتاً. [الأعراف: 74]، فكانت لهم منافع من الأرض تناسب نعمة إنشائهم من الأرض فلأجل منافعهم في الأرض قيّدت نعمة الخلق بأنّها من الأرض التي أنشئوا منها، ولذلك عطف عليه واستعمركم فيها. والاستعمار عند كثير من المفسرين هو الأعمار، أي جعلكم عامرينها، فالسّين والتاء للمبالغة كالتي في استبقَى واستفاق. ومعنى الإعمار أنهم جَعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع لأنّ ذلك يعدّ تعميراً للأرض حتى سمي الحرث عِمارة لأنّ المقصود منه عَمر الأرض. فمقصود هذه الآيات وغيرها واضح الدلالة في بيان مقصود العمارة من خلق الإنسان وأنه واجب على مجموع الخليقة في القيام به، وقد نص على حكم الوجوب الإمام الجصاص في قوله:?"واستعمركم فيها يعني أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه، وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية"وليس خارجاً هذا التكليف عن مفاهيم الطلب كما زعم البعض.