استوقفني في مراجعة صحيح البخاري حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاجه الأزواج، ولا غنى للزوجات عنه، إذ فيه مراعاة كل منهما لمشاعر الآخر في حال الغضب، فكيف بحال الرضا؟! أخرج البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: غيرة النساء ووجدهن عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:?"إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى"قالت: فقلت: ومن أين تعرف ذلك؟ قال:?"أما إذا كنت عني راضية، فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت لا ورب إبراهيم"قالت: أجل، والله يا رسول الله، ما اهجر إلا اسمك". إن من فطنة الرجل ورِقّة عاطفته ويقظة إحساسه، استقراءه لحال زوجته، من فعلها، وقولها، وحركاتها، في ما يتعلق بالميل إليه وعدمه، والحكم بما تقتضيه القرائن لأنه صلى الله عليه وسلم جزم برضا عائشة وغضبها بمجرد ذكرها لاسمه وسكوتها! فبنى على تغير الحالتين من الذكر والترك، تغير الحالين من الرضا والغضب، فهل لدى الأزواج استقراء لتغير الألفاظ المنبئ عن تغير الحال؟ وفي هذا تأصيل للمنهج العلمي الصحيح القائم على الملاحظة، والتتبع، ثم استنتاج الحقيقة والتحقق منها، وليس المنهج القائم على الظن والشك المفضي للخلاف والشقاق. كما أن فيه من الحكمة إشعار الحبيب بما ينوب خاطره من الوداد والعتاب والعناية بمعرفة دلائل الرضا والأسى والفرح والحزن لحسن التصرف مع أسبابها وما يورثه ذلك من علاج للخلافات الزوجية، والمشكلات الأسرية، ليهنأ الزوجان بحياة آمنة هادئة سعيدة. إن غضب عائشة - رضي الله عنها - على النبي صلى الله عليه وسلم كان لفرط غيرتها عليه، أو لعوارض الحياة اليومية، ومكابدة متاعبها وأعبائها ونحو ذلك، مما لا حرج في التأثر به مع بقاء أصل المحبة، ولولا ذلك لكان غضبها معصية وهجره كبيرة، إذ ليس كهجر أحد من الناس. وفي قولها: أجل - وهي تقال في التصديق - والله يا رسول الله ما اهجر إلا اسمك، حصر لطيف جداً... أخبرت أنها في حال الغضب الذي يسلب العاقل اختياره ورأيه، لا تنفك عن المحبة العظيمة المستقرة في قلبها، الممتزجة بروحها، الصادقة في عواطفها، وإن كانت تترك التسمية اللفظية، وتعبر عنها بالهجران لتدل على أنها تتألم من هذا الصدود الذي لا اختيار لها فيه، فقلبها معلق بذاته الكريمة صلى الله عليه وسلم، ممتلئ مودة ومحبة. يقول الشاعر: إني لأمنحك الصدود وإنني// قسماً إليك مع الصدود أميل وفي اختيارها - رضي الله عنها - ذكر إبراهيم عليه السلام دون غيره من الأنبياء دلالة على مزيد فطنتها وحدّة ذكائها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أولى الناس به، كما نص على ذلك القرآن الكريم، فلما لم يكن لها بد من هجر الاسم الشريف أبدلته بما هو منه بسبيل حتى لا تخرج عن دائرة التعلق في الجملة. يقول ابن بطال: فيه الصبر على النساء وما يبدو منهن من الجفاء، والحرج عند الغيرة، لما جبلن عليه منها، وأنهن لا يملكنها، فعفي عن عقوبتهن على ذلك... وعذرهن الله فيه. إن علينا أن نقرأ السيرة النبوية لنستقي منهج حياة يقوم على التكامل المفضي للمودة ، فالرجل يستقرئ أحوال أهل بيته، والمرأة راقية اللفظ ظاهرة الأدب في حال الغضب، فكيف بحال الرضا؟ فهل سنعي هذه الرسالة الحضارية الراقية التي عاشاها رسول الله لنعيشها نحن تأسياً به؟ * داعية وأكاديمية سعودية Nwal_al3eeed @ hotmail.com