حدث تاريخي مذهل في حياتي، عندما دخلت الحرم الشريف ونظرت إلى الكعبة العظيمة، قبلة المسلمين في كل البقاع، فعندما رأيتها للمرة الأولى على الطبيعة وجهاً لوجه، كان المشهد مهيباً يقشعر البدن ويهز المشاعر الروحانية، ويرقق القلب وتخشع له الجوارح كلها. لقد كان مشهداً غامراً لكل أحاسيسي، فلقد تراءت لي كأنها حورية ترتدي العباءة السوداء وتتحلى بالمجوهرات الذهبية، وتأخذ الألباب لجمالها وروعتها، أخذتني الرهبة وعشت في صمت مع نفسي، وخررت ساجدة حامدة الله، شاكرة له أن مكنني من زيارة بيته العتيق، فأنا في تلك اللحظات لست أنا، لقد تبدلت كل مشاعري وأحاسيسي وكأنني انتقلت إلى عالم آخر لا أجساد فيه، بل أرواح نقية شفافة طاهرة ترفرف وكأنها تجردت من كل الأعباء وحتى من جاذبية الأرض، إنها لحظات لا تعوض ولا تشترى بثمن ولا يهبها إلا الله سبحانه وتعالى، كم كانت ممتعة ولكنها وللأسف كانت قصيرة. لم أشعر بما حولي على الإطلاق ِإلا بعد أن ربت أخي عليّ أكثر من مرة ليخرجني من عالم السمو الروحاني إلى الدنيا التي ألفتها، وفجأة وعيت بأنني لم أزل في هذه الدنيا وتقبلت الأمر الواقع الذي لم يعد يرضيني بعدما شاهدت ما هو أفضل منه، سرت مع أخي وبقية الأسرة لنقترب من الكعبة المشرفة، وكلما اقتربت منها تزداد دقات قلبي، لدرجة أني خفت أن تخرج من بين ضلوعي وأنا غير مصدقة ما أنا فيه، وجدت نفسي أمام مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام، فتوجهت بصلاة ركعتين ثم بالدعاء إلى رب هذا البيت وأنا متذللة له وأمامي ذلك الطود العظيم. دارت في مخيلتي صور التاريخ كله منذ مقدم سيدنا إبراهيم، وكيف كانت حاله وسيدتنا هاجر وابنها إسماعيل عليهم السلام، وهم يبنون هذا البيت العتيق لبنة لبنة الذي حفظه وسيحفظه الله إلى قيام الساعة، فترقرقت دمعتي في عيني وسالت على وجنتي، وما أن رفعت رأسي إلى السماء فشاهدت طيور الحرم فتخيلت أصحاب الفيل وأبا طالب وما كان منهما، وقريش في شدة ضعفهم وعجزهم، وكيف تبدل الضعف إلى القوة بعد الفتح المبين، ثم تزاحمت في ذهني صور أخرى كثيرة، وتخيلت طواف رسول الله"صلى الله عليه وسلم"وأصحابه الكرام بالكعبة الشريفة، وأين كان يجلس ومن كان حوله، وكذا أبو جهل وغيره وما كان منهم، ثم شربت من أحلى كأس ماء زمزم. استمتعت في لحظات قصيرة بمشاهد كثيرة لا تقدر بثمن، وداهمت فكري الغض أحداث كثيرة عمرها أكثر من 14 قرناً، ثم خرجت مرة أخرى لأداء الطواف، وسرت مع أهلي ولست معهم، وكأنني معلقة بأجنحة تلك الطيور التي تطوف بالبيت العتيق، وكأن جبال مكة تطوف معنا، ما أحلاها من متعة لم اشعر بها من قبل، تمنيت أن يقف الزمان بي إلى هنا. بعد الانتهاء من الطواف والسعي وبقية النسك أحسست بخفة وزني وبرشاقة وانتعاش في كل مشاعري وصفاء ذهني، وكأنني غسلتها بماء زمزم غسلة طهرت كل خلية في كياني الضعيف، وشعرت على التو بأنني فقدت حملاً ثقيلاً، بل أثقل من جبال مكة والأرض مجتمعة، إنها الذنوب والأوزار التي أحسب أن الله محاها وغفرها لي وطهرني منها إن شاء الله، فله الحمد والشكر علي مَنه وكرمه عليّ بهذه النعمة العظيمة، هكذا شعرت، وهذه لحظات حقيقية، إنها تساوي العمر كله، وها هي دموعي تنساب غزيرة على فراق هذا المكان العظيم، فلقد كانت هذه الرحلة بالنسبة لي غذاءً لروحي المتعطشة لزيارة الكعبة المكرمة. ? الرياض