هيئة سوق المال في السعودية تجهزنا لقرار تاريخي في مسيرتها، بعد الأحداث الدامية التي تعرضت لها سوق الأسهم منذ نحو شهرين ومطلع هذا الأسبوع، حتى وصل المؤشر إلى يوم أمس، قبل نشر هذا المقال ب 48 ساعة، إلى مستوى 7300 نقطة، حركة دؤوبة داخل مبنى هيكل سوق المال تعمل بثقة وقرارات جاهزة تنتظر دورها في التنفيذ، في محاولة إصلاح السوق، ووضعها على الخط الصحيح! كل موظف في هيئة سوق المال بدءاً من رئيسها المكلف الدكتور عبدالرحمن التويجري، تألم ويتألم كثيراً مما حدث، خصوصاً مع أصوات ضجيج القنوات الفضائية، وهمس صبا ونادين مذيعتي قناة العربية، وهما تحاولان تهدئة السوق ولو بابتسامة حزينة. سوق الأسهم، سبقتها عناوين عدة خلال فترة قصيرة، أولها: قرار تجزئة أسهم الشركات من 100 ريال إلى 50 ريالاً، ثم إلغاء دوام يوم الخميس، ثم تعديل فترة التداول من الساعة الحادية عشرة صباحاً وحتى الرابعة والنصف، ما يعني أن الخطوة الأخيرة والمتوقعة، هي تعديل إجازة سوق المال لتكون يومي الجمعة والسبت، بدلاً من الخميس والجمعة! هل يمكن القول بأن سوق المال السعودية تقترب من قرار تقسيم السوق رسمياً وليس شكلياً، لتكون صورة طبق الأصل من معظم أسواق المال في العالم؟ وحتى لا نذهب بعيداً، فأسواق المال في معظم دول العالم، مقسمة إلى قسمين رئيسين، هما: سوق أولية، وسوق ثانوية... فالسوق الأولية، هي السوق التي تطرح فيها الاكتتابات الجديدة واكتتابات زيادة رأس المال، ولا يكون هناك تداول داخل هذه السوق، أما السوق الثانوية، فهي السوق التي يتم تداول الأسهم فيها، وهو ما يعرف بالبورصة، وتدرج فيها جميع الشركات الرابحة والخاسرة، وتدرج فيه الشركات بعد الانتهاء من تأسيسها في السوق الأولى أو بعد الانتهاء من عملية زيادة رأس المال عن طريق الاكتتابات. وهذه السوق الثانوية، تنقسم إلى قسمين، هما سوق أولية تحوي جميع الشركات التي تحقق أرباحاً تشغيلية لسنوات سابقة ثلاث أو خمس سنوات، ولدى هذه الشركات إفصاح وشفافية ويتم عادة تداول أسهم الشركات في هذه السوق فوراً وفي اليوم نفسه، أما السوق الثانية، فهي سوق ثانوية أخرى وتضم جميع الشركات الخاسرة أو التي لا تطبق قواعد الإفصاح والشفافية وكذلك الشركات الحديثة الطرح في السوق الأولية، والتي تنتقل بعدها إلى السوق الثانوية الرئيسة، وعادة يكون تداول أسهم هذه الشركات بعد يوم إلى ثلاثة أيام. ما يحدث في سوق الأسهم، كان نتيجة حتمية لعناوين عدة حدثت خلال الفترة الماضية، بدأت منذ حادثة شباط فبراير الماضي، في مقدمها ما تداولته السوق من شائعات أن المؤشر سيصل إلى حدود 9000 نقطة، ومن قبلها الارتفاع الكبير الذي حققته أسهم بعض الشركات في فترة وجيزة، حتى أنها وصلت إلى"ضعف سعرها"، علما بأن أسهم تلك الشركات كانت تعيش في"سبات عميق"طوال الأشهر الستة الماضية، وحدث ولا حرج عن نتائجها المالية، في حين أن القاعدة الاقتصادية تؤكد أن سعر سهم أي شركة يجب أن يتناسب ويتماشى مع نمط نمو أرباحها! والمثير داخل أزمة السوق، أننا نطالب سوق الأسهم بأن تعبر عن قوة الاقتصاد السعودي ومكانته ومقوماته.... الخ، في حين أن أرض الواقع تؤكد أنها ليست مؤهلة للتعبير عن ذلك! ومع الأخذ في الاعتبار المعايير والضوابط الاجتماعية والدينية للاقتصاد السعودي، فإن الحاجة إلى سوق متطورة جداً باتت ملحة، ويعزى ذلك إلى مفهوم اقتسام الربح والخسارة المتأصل في ارتفاع وانخفاض قيمة الأسهم على نقيض النظام المصرفي التقليدي الذي يعتمد أكثر على النظام القائم على الفائدة. ليس هناك خلاف حول أهمية أسواق رأس المال في عملية نمو وتطور أي اقتصاد... ومع الاعتراف الذي ناله القطاع الخاص في الآونة الأخيرة بوصفه يمثل المحرك الأساسي للتنمية، فقد برزت الحاجة أكثر إلى أهمية سوق المال. أصبحت هذه الأسواق مصدراً مهماً في الدول النامية وأكثر أهمية في الدول المتقدمة لتحويل المدخرات إلى استثمارات، ويمكن أن نستخلص من دراسات البحوث وتجارب الدول الأخرى أن سوق الأسهم التي تتسم بأدائها وتنظيمها الجيد وتطورها وفعاليتها وتحررها هي التي من شأنها تعزيز وتشجيع النمو الاقتصادي والتنمية لدرجة زيادة المدخرات الحقيقية، وتكوين رأس المال والدخل القومي، وزيادة صافي التدفقات الرأسمالية الأجنبية، ورفع إنتاجية الموارد الوطنية عن طريق توظيف هذه الموارد في قنوات استثمارية ذات مردود لأن تخرج المملكة العربية السعودية من وضعية الدولة التي يوجد بها سوق ناشئة، فما ستقدم عليه هيئة سوق المال، سيضع الحد لمأساة أكثر من ثلاثة ملايين مواطن سعودي في سوق الأسهم، 90 في المئة منهم من صغار المتداولين، فهم أكثر المستثمرين استقراراً في أسواق الأسهم، لأن صغر حيازاتهم في الأسهم تمنعهم من التأثير تأثيراً سلبياً كبيراً على السوق، حتى أن القرار الذي نتخيله، سيضفي مزيداً من"الأناقة"على سلوك"المضاربين"، باعتبارهم الفئة"المشاكسة"، فهم سيجدون بيئة صحية في شركات ذات حجم معين من الأسهم، يقودون فيها"مجموعاتهم"كما يريدون. إن مهمات كبرى تنتظر هيئة سوق المال، وتتمثل في تحسين مستوى معايير الإفصاح والشفافية، فهي أساس لتطوير سوق الأسهم، وهي وإن اتخذت بالفعل بعض الإجراءات وطلبت من بعض الشركات التي لم تلتزم بنشر بياناتها المالية، ونشرت مبادئ الحوكمة، فتحسين معايير الإفصاح والشفافية من المحتمل أن يؤدي إلى تقليل حالات ما يعرف بصفقات المطلعين Insider Trading أي الصفقات المبنية على معلومات لم تعلن للجمهور، على رغم أنه لا يمكن القضاء عليها أو تجنبها كليةً. * إعلامي وكاتب اقتصادي [email protected]