يثير كل من يراه وهو يحمل على رأسه كتبه ودفاتره في كل مساء، وهو يلهج بقراءة سور جزء"عم"قبل أن يدخل إلى مدرسته التي تعايش معها لسنوات طويلة، إنه من الرحالة القدامى، وبرفقته عصاه، يتكئ عليها، وعلى كتفيه عباءته السمراء البالية، وفي جيبه قلم، أهداه إياه أحد معلميه. للوهلة الأولى، تحسبه ولي أمر طالب جاء ليعطي ولده كتبه التي غفل عن حملها، لكن سرعان ما يتبين أنه طالب في مركز محو الأمية منذ عشر سنوات، تفوق على معلميه في قدرته على فهم النحو العربي وفق المدرسة البغدادية. سُجل مروي ظاهر عياد الشمري كأكبر طالب في صفوف محو الأمية، فهو تجاوز النصف الأول من عقده السادس، واقترب من السابع، إلا أنه لم يتجاوز مقعده المحبب، وطاولته التي يحمل معها ذكريات بدأت منذ أكثر من نحو عقد، قضاه بين الدفاتر والكتب. وزادت قصة الشمري غرابة حين علم معلموه في مركز"زيد بن حارثة لمحو الأمية"في بقيق، أن الهدف الرئيس من محاولاته الكثيرة للتعلم لم يتعد إمكانية قراءة آيات القرآن الكريم بحسب ما نقل مدير المركز عبد الرحمن الغامدي، الذي وصف طالبه الكبير ب"المعجزة"لكونه"لم ينقطع عن الدراسة خلال هذه السنوات الطويلة، ولا يتحرج من الجلوس بجوار زميله، على رغم المسافة العمرية الطويلة بينهما". ويراود هذا الشيخ الكبير حلم قراءة القرآن، ما جعله ذا ميزة خاصة بين طلاب ومدرسي وإداريي مدرسته، وبمجرد النظر إلى ملامحه الغريبة، يستطيع من يلتقيه أن يُجزم أنه لا يعيش في العصر الجاري، بسبب ما يعانيه من تعب ووهن، ونظرات تحمل الكثير من التساؤلات، إلا أن قصته التي سردها ل"الحياة"من عرفوه في مدرسته، كانت أغرب من أن يصدقها العقل. فالشمري يعيش وحيداً في مدينة بقيق، ولم يتزوج أبداً خلال حياته الطويلة والمليئة بالمعاناة، فلا أهل ولا أصدقاء له سوى عباءته التي مزقها التنقل، وعكازه المحدب وثيابه الرثة، ويتنقل بين المساجد، لأنه لا يملك منزلاً يؤويه، فعباءته الضعيفة لحافه، ويده المجعدة وسادة رأسه. كان جامع"معاوية بن أبي سفيان"منزله الذي يغفو فيه ساعات قبل أن يوقظه صوت الأذان، إلا أن ذلك المأوى أصبح من الذكرى، بعد قرار إعادة بنائه، ليصبح الشمري على أبواب التشرد من جديد، ولعل نظراته الدامعة وغير المتفائلة أوحت لنا بمطالبه البسيطة. ويقول:"لا أطلب شيئاً سوى منزلٍ صغيرٍ جداً يؤويني، فلقد تعبت من التنقل والضياع، وآن لي أن أستريح"، مضيفاً"على رغم ما أعانيه، إلا أنني أجتهد في محو أميتي، فأمنيتي أن أقرأ القرآن الكريم، وأحفظه إلى جانب جزء عم، الذي كنت في قمة السعادة حين حفظته، وحين تسمعون المثل القائل"المقطوع من شجرة"فاذكروني، لأنني من دون أهل، ولو أصابني مرض أصارعه، فإما أن يصرعني، وإما أن أصرعه، هكذا أعيش وبكل بساطة". وأثار هذا الشيخ تعجب معلميه، حين اكتشفوا مهاراته اللغوية، ومعرفته القوية بالقاعدة البغدادية في النحو، إذ كان دائماً ما يُصحح لمعلميه وزملائه إشكالاتهم اللغوية. ويعد الشمري من الوجوه المحببة والمألوفة داخل المركز. ويقول المدير الغامدي:"إنه رجل شجاع ومناضل من أجل محو أميته، وأكاد أجزم أنه الأكبر سناً في مراكز محو الأمية في المملكة، ويحتاج الدعم والتشجيع، ليكون مثالاً لطلب العلم من المهد إلى اللحد". وأصيب الشمري بأمراض عدة هددت حياته، ومنها مرض أصاب كليته، لكنه تغلب عليه، وفي الآونة الأخيرة أصيب بضعف في النظر، ما جعله يعاني من عدم التركيز داخل الحصص الدراسية، إلا أن مخاوفه الكبرى تنحصر في أن يموت، ولا يحقق حلمين رئيسيين في حياته، أولهما قراءة القرآن الكريم بعد أن يمحو أميته، والثاني أن ينام داخل منزل، ولو لمرة واحدة. وتزداد مخاوفه مع اقتراب بدء صيانة الجامع، الذي كان يمثل مأواه الوحيد، ويبحث حالياً عن جامع آخر، وعلى رغم تعاطف الكثيرين معه، إلا أن حكاية هذا الشمري لا تزال مبهمة، ولا يعرف عنها سوى مقتطفات صغيرة جداً، من أبرزها أن أصله يرجع إلى حائل، إذ كان يعيش، وفيها تنقل من مهنة إلى أخرى، حتى بات وحيداً في عالمه الخاص.