بعد غد تحتضن الرياض القمة العربية التاسعة عشرة، وليس من باب المبالغة الإدعاء بأن للمكان دلالاته الخاصة به، هذه البلاد المثقلة بتاريخ أمتها منذ فجر تاريخها من معلقاتها الشعرية السبع، والتصاق ثقافة الأمة بالشفافية الشعرية ليصبح الشعر ديوان العرب إلى انبثاق فجر جديد يحمل رسالة التوحيد والرحمة للعالمين لتتكون الدولة العربية الإسلامية العالمية التي امتد شعاع هدى دينها الحنيف إلى بقاع الدنيا كلها حتى سقوط بغداد على يد المغول، لتمر الأمة بمرحلة التشتت والانكسارات المتتالية حتى سقوط بغداد مرة ثانية في أيدي المحافظين الجدد ليرسموا لنا هوية"شرق أوسطي جديد". ولكن إرادة الله أقوى من كل التخطيط الاستراتيجي والتكتيكي معاً، لتتبدد أحلام إسرائيل في الصيف الماضي بكل قنابلها العنقودية والفسفورية، فالحسابات أيضاً أخطأت مرة أخرى، ثم ترجع الأمة إلى جذورها لتعيد صياغة هويتها الحضارية من داخلها وفق مصالح شعوبها. فالكل يتجه الآن نحو الرياض وقيادتها التاريخية التي تستقبل الزعماء الأشقاء بقلوب مخلصة وعقول متفتحة ونفوس متسامية عن الأهواء، وعن أي نزعات طائفية يراد بها تدمير الأمة وتمزيقها لتدخل في نفق جديد من التشرذم والتخلف والصراعات الجانبية التي تنهي على ما تبقى من مقومات النهوض، فها هي القيادة السعودية تجمع الفرقاء المختلفين في فلسطين في"اتفاق مكة"وتعمل على مدار الساعة لجمع الفرقاء المختلفين في لبنان ليشاركوا في مؤتمر القمة موحدين، وستعمل على جمع الفرقاء المختلفين في العراق، والكل من أقصى الوطن العربي إلى أقصاه يدرك تعقد المشكلات العربية وتشابكها محلياً وداخلياً ودولياً إلا أن هناك مسألة جوهرية إذا ما تم التعاطي معها بشكل رئيس في القمة سيسهم في حل كل المشكلات العالقة في المنطقة وهى قضية الصراع العربي الإسرائيلي، أو الذي ينظر لها العرب على أنها القضية المركزية التي تتمحور حولها معظم خلافاتهم، فهذه القضية التي تستنزف كل طاقات الأمة العربية منذ أكثر من 50 عاماً. ينبغي على القمة أن تتعامل معها في ظل فهم الظروف الدولية وفهم المأزق الذي يعيشه طرف الصراع الأساسي وهما الولاياتالمتحدة وإسرائيل، فالإدارة الأميركية تعيش أسوأ حالاتها نتيجة للمأزق الذي تعانيه في العراق والتى تبذل كل ما أوتيت من طاقة للخروج من هذا المستنقع، محاولة أن تصور ما يحصل في العراق بأنه من صنع هذا الطرف الإقليمي أو ذاك، ولكنها مهما حاولت التنصل من مسؤوليتها فلن يقتنع بخطابها احد سواء في الداخل الأميركي أو في الخارج، والحكومة الإسرائيلية تعيش في أصعب ظروفها، فشعبية رئيس وزرائها في انحدار والطبقة السياسية في اسرائيل بدأت تنأى بنفسها عن حرب لبنان، وذلك من اجل كسب الناخب الإسرائيلي الذي عايش الانكسار النفسي لقوته التي لا تقهر. الشيء الذي يثير الاستغراب انه على رغم هذه الأوضاع، فإننا نجد أن الحكومة الإسرائيلية هي التي لا تعترف بحكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، بل تذهب أكثر من ذلك بمقاطعة كل من يتعامل مع وزراء الحكومة الفلسطينية من الأوروبيين في عملية ابتزاز اقل ما يقال عنها أنها"رخيصة جدا"ولا نستغرب أيضاً أن تخضع الدول الأوروبية لابتزازها، لأنه في التحليل النهائي وفي اللعبة السياسية في التاريخ الإنساني لكل شيء ثمن، فإذا كان الطرف العربي يكتفي بالمناشدات وبالترجي فلن يستمع له احد، أما إذا كان الموقف العربي موحداً ويتخذ قراراً جماعياً بحيث لا يقع العبء على دولة عربية بعينها في الضغط على الدول الغربية لدفع ثمن المواقف تجاه الحكومة الفلسطينية، بالتأكيد ستكون هناك إعادة نظر في مجمل المواقف الدولية بما في ذلك الحكومة الإسرائيلية، والسؤال ما الذي يمنع الدول العربية خصوصاً مصر والأردن عن تجميد علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل إذا لم تعترف بحكومة الوحدة الوطنية، وكذلك الدول التي لها مكاتب أو علاقات تجارية مثل قطر، أو رفض استقبال اى وفد له صلة بالدولة العبرية، ونحن هنا لا نطالب بقطع العلاقات ولكن مجرد اتخاذ موقف عملي تحت مظلة"الجامعة العربية"وقرارات القمة العربية، ومبدأ السيادة لكي يكون هناك ثمن ما تدفعه الحكومة الإسرائيلية إزاء مواقفها، خصوصاً أن الدول العربية تستطيع أن تقنع العالم عن طريق التفريق بين حركة حماس كحركة مقاومة مع أن المقاومة مشروعة في كل القوانين والاعتراف الدولية في ظل الاحتلال، وبين حركة حماس كتنظيم سياسي وصل إلى الحكومة عن طريق انتخابات شرعية، والهدف الأساسي من تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بين حركتي فتح وحماس والمستقلين هو إعطاء نوع من المرونة في التعامل السياسي خصوصاً لغرض تجاوز شروط الرباعية الدولية من أن تعترف حماس وبصورة صريحة جدا بالكيان الصهيوني، مع أن قناعتي الشخصية أن حركة حماس تعترف بالكيان الصهيوني ضمنياً ولكنها لا تريد أن تسلم أوراقها كاملة ومجانية للطرف الإسرائيلي، هذا هو الموقف الآتي الذي يجب على الدول العربية أن تلتزم به تجاه حكومة الوحدة الفلسطينية لرفع الحصار عن الشعب الفلسطيني والتخفيف من معاناته. وتبقى المسألة الأهم وهى المبادرة العربية للسلام التي طرحها الملك عبد الله على مؤتمر القمة المنعقد في بيروت عام 2002 وتبنتها القمة لتشكل الموقف العربي الموحد من قضية الصراع العربي الصهيوني بعد أن دخلت القضية في نفق مؤتمر مدريد واتفاقات"أوسلو"وخارطة الطريق بهدف إدارة الأزمة من مفاوضات إلى اتفاق على المفاوضات إلى تفاصيل التفاصيل من دون أن يكون هناك أفق واقعي لحل شامل للقضية. ما طرحه الملك عبدالله في مبادرته هو محاولة إيجاد حل جذري وشامل لقضية الصراع، وما يميز المبادرة هو بساطتها، وبالتالي سهولة تسويقها للرأي العام الأميركي وعلى مدى عقود طويلة يحاول عزل الرأي العام عن فهم جوهر القضية الفلسطينية عن طريق الدخول في تفاصيل خلافية معقدة، بحيث يبدو للمواطن الأميركي أن هناك 22 دولة عربية تحاول القضاء على دولة ديموقراطية صغيرة اسمها إسرائيل، وبالتالي فان الطبقة السياسية في أميركا ودوائرهم الانتخابية ومن ورائهم العناصر المتصهينة الممتدة والمتجذرة في كل مؤسسات المجتمع الأميركي تظهر العرب على أنهم حكومات وشعوب غير عقلانية يدفعها كرهها للآخر وبالتحديد اليهود إلى عدم قبول دولة إسرائيل، وبالتالي فالعرب يقفون ضد العيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل والالتفات إلى تطوير شعوبهم وتقدمها من دون الدخول في حروب، ويظهر لنا المسؤولون الإسرائيليون والمحللون السياسيون والمثقفون على وسائل الإعلام الأميركية وهم يتباكون على أطفالهم وأطفال العرب الذين يحبونهم والذين يريدونهم أن يعيشوا السلام ولكن الحكومات العربية لا ترغب بذلك التعايش مع هذه الدولة الصغيرة المسالمة، الملك عبدالله في مبادرته قلب الطاولة على هذا الخطاب الإعلامي المبسط إلى خطاب إعلامي أكثر بساطة إذا ما وجد الأشخاص الذين يحللون القدرة على تسويقه، فالعرب لا يكرهون الإسرائيليين لمجرد الكره، فهناك احتلال لشعب عربي آخر وهذا الشعب يريد أن يعيش بسلام كغيره من شعوب العالم والشعوب العربية وحكوماتها أيضا يحبون أطفالهم ويريدون أن يبنوا لهم مستقبلاً مشرقاً وذلك ببساطة عن طريق الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة عام 67 في مقابل التطبيع الكامل مع الدولة العبرية. فهناك قضية احتلال وظلم لشعب بعينه وانه على المدى الطويل ولكي تعيش اسرائيل ضمن منظومتها الإقليمية لابد أن تتخلى عن الأراضي الفلسطينيةالمحتلة ويعيش الجميع بسلام، هذه البساطة في الطرح يجب أن تفعلها قرارات القمة وذلك بتسويقها للعالم اجمع من دون تغيير، هذه البساطة في الطرح تذكرنا بموقف الملك عبدالعزيز ? طيب الله ثراه - عند لقائه بروزفلت والطريقة التي عرض بها القضية الفلسطينية على الرئيس الأميركي. أما عملية طرح المبادرة بالنقاش والدخول في مفاوضات حول المفاوضات أو طرح مسألة التطبيع قبل الانسحاب الكامل فهذا لا يقره لا عقل ولا منطق، والمهم في كل هذا هو الموقف العربي المتماسك والصادق مع الذات ومع الآخر، والكل يدرك أن العدو الصهيوني يريد أن يحصل على كل شيء في مقابل لا شيء وإدارة المحافظين الجدد بطبيعة ايديولوجيتها لا تبتعد من هذا المنطق كثيراً، ودافع الضرائب الأميركي لا يريد أن يستمع إلى قضايا معقدة لا تهم حياته اليومية، فهل تكون قمة الرياض فاتحة خير لحل مشكلة المشكلات؟ نحن لا نملك إلا أن ندعو الله العلي القدير أن يوفق قادتنا لما يخدم مصالح شعوبهم وأمتهم العربية والإسلامية . * أكاديمي سعودي.