كلما التزم المحامي في دفاعه معطيات الحقيقة من دون أن يحاول الحيد عنها أو تجاهلها أو الاقتناع بعكسها، كان نجاحه في مهمة الدفاع أكبر, غير أن هذه ليست بالقاعدة المطلقة. فقد يتطلب الدفاع إنكار واقعة حقيقية خشية أن يؤدي التسليم بها إلى إدانة غير مستحقة, فلو أن خادمة اتهمت مخدومها بأنه أجهضها ولم تكن الحقيقة كذلك، وكانت قد حملت من غيره، فان تسليم المخدوم يسبق وجود صلة بينه وبين تلك الخادمة يؤدي إلى إدانته على رغم كونه في واقع الأمر بريئاً من تهمة الإجهاض. وكثيراً ما يضع الجاني محاميه في حيرة حول ما إذا كان من المناسب إنكار الجريمة أم الاعتراف بها. ويرى المحامي حرجاً كبيراً في إبداء نصيحة الاعتراف. وفي الوقت ذاته فانه ليس مشروعاً تأثير المحامي على أدلة ثبوت الجريمة في حق موكله. فإذا أسهم المحامي خلال مرحلة التحقيق في التأثير على أدلة الإثبات ضد موكله، ارتكب بذلك إخلالاً مهنياً خطيراً ينحرف بمهنته في غرضها السامي وهو إظهار براءة البريء حقيقة وعلى أساس مستمد من الحقيقة. فمهمة المحامي تفسر المعطيات على نحو يتجه بها إلى إثبات براءة المتهم لا يحق له بحال ما أن يفسد الأدلة ولا أن يصطنعها في صالح موكله. وسلوك المحامي على هذا الوجه الأخير، يكون في قانون العقوبات الايطالي جريمة تسمى بتضليل العدالة. والواقع أن دور المحامي في مرحلة التحقيق محدود لا يتعدى مجرد المتابعة، في حين أن المهمة الكبرى الواقعة على عاتقه إنما يحين وقت أدائها في مرحلة المحاكمة. ولا شك في أن المحامي البارع هو من يجيد مناقشة الشهود ويحدد وجه المناسبة في توجيه سؤال إلى الشاهد أو في السكوت عن سؤاله، ويفهم نفسيات الشهود ومدى جدارتهم بالتصديق، ولا تعوذه وسيلة استنطاق شاهد ملتزم الكتمان والصمت، وذلك بتضييق الخناق عليه عن طريق الأسئلة، كما أن المحامي يستطيع إن كان بارعاً كشف وجه الزيف في شهادة شاهد كثير الكلام. ويلزم أن يطلع المحامي على ملف القضية قبل الجلسة، ويحسن عدم اكتفائه باطلاع يجريه غيره، لاسيما ومعاينة الملف الأصلي تكشف في كثير من الحالات عن أمور لا يتاح ظهورها باطلاع يجريه الغير، وذلك في مجال تزوير المستندات على وجه الخصوص. على المحامي أن يستفسر من موكله على عقيدة هذا الموكل في كل شاهد من الشهود، وهل تحرك الشاهد روح عداء أم روح صداقة, وذلك تمهيداً لتحديد مدى المصلحة في سؤال الشاهد ومدى البعد الذي يمكن الوصول اليه في مناقشته. وجرت العادة على عدم الإكثار من سؤال محرري المحاضر، لأن الواحد منهم حريص دائماً على عدم التشكيك قيد أنملة في ما دوّنه بمحضره، كما أنه يردد عادة ما جاء بالمحضر وكثيراً ما يكتفي المحامي لهذا السبب بتلاوة المحضر من دون استماع إلى محرره. غير أن هذه ليست قاعدة مطلقة, فحيث تنهض الشواهد على أن محرر المحضر متحيز أو كاذب، ضيق المحامي الخناق عليه بالمناقشات للكشف عن بهتانه. والواقع أن المحامي يجد كل من حوله ضده، من متهم مسلكه يستعصي أحياناً تبريره، ومن شاهد يصعب كشف كذبه، ومن حجج مضادة تصدر عن النيابة، ومن حيرة أو روح مضادة ينتابان القاضي، فعليه أن يخرج من كل ذلك بانتصار لرسالته. وهو عادة يُركز جل انتباهه في القاضي لاستكشاف روحه وتنميتها في ذات اتجاهها إن كانت في صفه، أو لتغيير اتجاهها رويداً إن لم تكن مواتية، وفي حال تعدد القضاة ووجود إلمام بالقضية لدى أحدهم من دون الآخرين، يبذل المحامي ذات الانتباه إلى هذا الذي أبدى إلماماً بالقضية، لتعزيز إحساس هذا الأخير أو لتعديل إحساسه بحسب الأحوال، والعمل كذلك على اكتساب تجاوب زميليه أو زملائه من القضاة معه، والاستعانة بهم على ذلك عند اللزوم بأسلوب رفق وهوادة في الإيضاح. إذن فأهم واجب يقع على عاتق المحامي تجاه موكله، هو استكشاف الاتجاه الذي ينزع إليه القاضي والرؤية التي يرى القاضي بها القضية، وذلك إما لتثبيت القاضي على ذات الاتجاه، وإما لتحويله عنه إن كان اتجاهها غير متجاوب، بحيث يتوصل المحامي بذلك إلى التوحيد إن أمكن بين نظرته إلى القضية وبين نظرة القاضي إليها. ولا تجدي في ذلك المناقشة الرتيبة بقدر ما يجدي سؤال ذكي أو اعتراض في محله أو حملة تشن في أوانها المناسب. والمحامي عن المتهم يبني دفاعه على الحقيقة الظاهرة من الإجراءات، وإذا تكشفت حقيقة واقعية تنافي الحقيقة الإجرائية البادية، بذل المحامي كل ما في وسعه لإنقاذ موكله المتهم قدر المستطاع، إذ تكون الحقيقة المكتشفة من دون حسبان لها مضادة لمصلحة هذا الموكل. وليس الأمر كذلك بصدد المحامي عن المدعي بالحق المدني. ذلك لأنه إذا تبين حقيقة واقعية تنافي الحقيقة الإجرائية وتعارض مصلحة موكله وهو المجني عليه في طلب التعويض، لا يكون له أن يخون موكله، فهذا لا يجوز، وإنما عليه ان يقتصر على الانسحاب حتى لا يسهم باستمراره مترافعاً في العمل في إدانة إنسان بريء. والمحامي عن المدعي بالحق المدني يواجه عادة تطرفاً ومبالغة من جانب هذا المدعي يجران إلى نزعته إلى التشفي من المتهم. وعليه ان يلطف حدة الموقف الذي يقفه موكله المدعي المدني, ذلك أنه ان كان يغتفر للمحامي عن المتهم تطرف ما في الدفاع إنقاذاً للمتهم من العقاب أو من شدة العقاب، لا يقابل بذات الروح المحامي عن المدعي بالحق المدني في مجال مطالبة بحق مالي، ولذا يحسن بالمحامي عن المدعي المدني أن يلتزم في مسلكه مسايرة النيابة في موقفها والاقتصار على الانضمام إليه فيه.