أم القاضي... 1 كن ثلاث أمهات، جمعهن مجلس واحد، إحداهن ابنها محاضر في إحدى الجامعات، وكانت تحكي عن مواعيد مراجعات لها في عيادة الأسنان لدى المشفى المختص التابع لجامعة ابنها، وأما الثانية فقد بلغ بها حظها أن تراجع في أرقى المشافي الخاصة، إذ كان ابنها يعمل في مرتبة متوسطة في مؤسسة مالية حكومية، أما الثالثة فقد كان من قدرها أنها كانت أماً لقاض في وزارة العدل. 2 في المطار كان صاحب الفضيلة واقفاً وإلى جواره زوجته واثنان من أطفاله كانوا واقفين جميعاً في صف الانتظار لزيارة أمه في بلدتها، لم تشفع له توسلاته لدى موظفي المطار بأن له أماً تنتظره، أو أن مقر عمله كان في بلدة أخرى لا يوجد بها مكتب للحجز، أو أن هواتف الحجز كانت لا تجيب، لم ينفعه ذلك كله ليجدوا له مكاناً في الطائرة التي أقلعت من دونه، واضطر إلى أن ينتظر الطائرة التي تليها بعد ساعات، حيث عاد للاستجداء من جديد، وأخيراً تعاطف معه قلب أحد موظفي المطار، وسمح له أن يكون من بين الركاب، وفي وسط الطائرة كان وأهل بيته يجلسون في أربعة مقاعد متجاورة، وكان فضيلته يخفي وجهه بمطالعة صحيفة يومية! 3 حين نزل من الطائرة رأى صاحباً له قديماً وزميل دراسة يعمل ضابطاً بالقوات المسلحة تعانقا طويلاً، استغرب الضابط لأنه لم ير فضيلته في الطائرة، وقال:"يبدو أنك يا شيخ كنت قريباً من الباب في مقدمة المقدمة فنزلت قبل أن أراك، هكذا أنتم أيها القضاة معززون مكرمون ومقدمون في كل مجلس... كان صاحب"الفضيلة"يتابع باندهاش كبير كلام صاحبه الضابط، ولا يكاد يستوعب كثيراً مما يقوله، عاد صاحبنا لأهله الواقفين بانتظاره، ثم غادروا في سيارة أجرة إلى بيت والدته التي بكت كثيراً حين رأته، وخف عنها برؤيته بعض ما وجدت من غيابه. 4 في اليوم التالي، الساعة الثامنة تحديداً كان صاحبنا على موعد مع صاحبه الضابط الذي كان وجه له دعوة لتناول الغداء معه في نادي الضباط والتقيا، وكان فضيلته مذهولاً بكل شيء يراه حوله، جلسا في مكان قصي يتسامران وحدثه صديقه الضابط عن آخر رحلة له للقاهرة، وكيف أن للقضاة أندية هناك، اختاروا لها أجمل الأماكن على نهر النيل، وجمعوا لهم فيها ما يحفظ خصوصيتهم، ويساعد على هيبتهم، غير أنني قرأت ? يقول الضابط ?"أن القضاة عندنا لا يحبون هذه الأندية ولا يتقبلونها ولا يرون مشروعيتها، وهذا سبب عدم توافرها لهم"، وهنا قال القاضي:"ربما أن أفراداً من القضاة وحدهم لا يحبونها، ولكنني أقسم لك أن البقية يتمنونها ويحلمون بها". 5 كانت رحلة شاقة وسفراً مضنياً ذلك الذي انتقل به صاحبنا عائداً إلى بلدة عمله القضائي، واضطر معه أن يستخدم وسائل نقل عدة حتى وصل إلى المحكمة، حيا الموظفين وأكثر المراجعين واستقبل أعمال ذلك اليوم بالقضايا الآتية: القضية الأولى: حيازة وترويج مخدرات للمرة الثالثة. القضية الثانية: فلانة تطلب الفسخ من زوجها، بسبب فجوره وتطالب بحضانة أولادها والنفقة. القضية الثالثة: مدين ودائن في سداد كراتين صابون! القضية الرابعة: سرقة أغنام. القضية الخامسة: حادثة سير وديات. القضية السادسة: مسيل يزعم المدعي أن خصمه حرفه عن أرضه ملحوظة: المطر متوقف عن البلدة منذ أكثر من عشر سنوات. القضية السابعة: عامل يدعي أن كفيله ضربه وقال له كلاماً بذيئاً. القضايا الثامنة والتاسعة والعاشرة..."حسناً، يكفي يكفي، النظام جعل للقاضي نظر ست قضايا فقط في اليوم ولا أريد أن أزيد عليها حتى لو امتدت المواعيد إلى أشهر عدة، الذنب ليس ذنبي". قال له الكاتب بأدب جم:"لكن يا فضيلة الشيخ ماذا عن حجج الاستحكام لدينا ما يزيد على 500 ملف! القاضي بنفاد صبر"حسنا ًاجعلوها بعد صلاة الظهر يومياً ثلاث حجج، احرصوا على الخالية من الاعتراض وأخروا البقية قليلاً". الكاتب بأدب ولكن"ليس جما"ً هذه المرة:"وماذا عن الإنهاءات يا شيخ"؟ الشيخ:"الإنهاءات لا وقت لها، اجعلوها في أوقات الفراغ، عقود الزواج، إثبات الطلاق، إثبات الحالات الاجتماعية المختلفة، وصكوك الإعالة... الإنهاءات كلها اجعلوها بمعدل عشر معاملات يومياً، وسيعيننا الله، واحرصوا على تصديق عقود المتزوجين وأخروا المطلقين عسى أن يكون في التأخير خير"! بعد عمل مضن وشاق يعود فضيلته إلى بيته ويطلب الصحيفة اليومية، ليقرأ خبراً عن المحاكم المتخصصة... تبدو ابتسامة فاترة على مبسمه، ويتذكر انه قرأ الخبر ذاته في أول يوم باشر فيه عمله قبل سنوات، كانت في ذلك الخبر عبارة زائدة عن الخبر الجديد تقول"قريباً جداً"! 6 كان صاحبنا يؤدي إلى جانب عمله القضائي أعمالاً أخرى بعضها بأجر وأكثرها يعمله احتساباً، تتوزع بين الإفتاء وكتابة العدل وإمامة المسجد والإشراف على جمعية البر وحلقات تحفيظ القرآن والاجتماع إلى هيئة الأمر بالمعروف وزيارة السجون، كما وقد أصروا عليه بأن يفتح باباً للرقية، وأن يعقد مجالس لتعبير الرؤى، غير انه امتنع لضيق الوقت وعدم القدرة! يا جماعة يكفي، والله العظيم يكفي، لدي معاملات أخذتها من المحكمة مع أن النظام يمنع لأدرسها في البيت لا أجد وقتاً لقراءاتي الخاصة أو حتى لأعيش جواً هادئاً مع أولادي وأهلي، مرت سنوات طويلة من عمري، ولا أمل يلوح لي بامتلاك أرض، فضلاً عن عمارة مسكن، تقدمت بخمسة خطابات إعفاء من القضاء ولم أجب، ماذا تريدون مني بالله عليكم وأنا أجد حرجاً في تبضع حاجاتي من السوق، ولا أجد نائباً ليقضي بعض ما أحتاجه من مراجعات الدوائر، وأنا أتوخى الحذر في مسيري والحيطة في علاقاتي؟! طالب بن عبدالله آل طالب قاضي محكمة تثليث سابقاً السلطة التقديرية في الفقه الإسلامي في الأصل يشترط لكل التصرفات الإدارية أن تكون متوافقة مع قواعد موضوعة من قبل، أي خضوع تلك التصرفات لنصوص الشريعة الإسلامية والأنظمة الصادرة بالاستناد إليها، حتى لا تتعرض تلك التصرفات للبطلان، ولهذا أصبحنا أمام ضوابط لتقييد عمل السلطة التقديرية للإدارة... لذا يجب تقييد العمل بالسلطة التقديرية بالشروط الآتية: 1- عدم مخالفة النص من الكتاب أو السنة: يجب على رجل الإدارة في كل تصرفاته أن ينظر في نصوص الكتاب والسنة، فإن وجد الحكم في أحدهما منصوصاً عليه بالوجوب أو الحظر، أي أن سلطته مقيدة بما هو منصوص عليه، وأما إن خيره النص، أو سكت عن بيان حكم تلك القضية، كان له الحرية في التعامل إزاءها. 2- عدم مخالفة الإجماع: فإذا كانت القضية غير منصوص عليها، لا في الكتاب ولا في السنة المطهرة، فعلى رجل الإدارة أن ينظر في ما أجمع عليه علماء الأمة، لأن السلطة كما تتقيد بالنص، تتقيد أيضاً بما هو على إجماع فلا يجوز أن يخرج عنه. 3- عدم مخالفة مقاصد الشريعة الإسلامية: إن الشريعة موضوعة لمصالح العباد، ودرء المفاسد عنهم، فمن قصد غير ما وضعت له، كان مناقضاً لها فيكون عمله باطلاً، لقوله تعالى:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت سعيراً"النساء 115 وعليه يجب أن تكون تصرفات المكلفين سائرة في فلك هذه المقاصد، غير خارجة عنها ولا مصادمة لها، وغير ذلك معناه مخالفة التشريع في مقاصده وأهدافه. 4- عدم مخالفة العرف: جاء الإسلام لإصلاح ما فسد من أوضاع الناس، ولم يكن من أهدافه هدم ما اعتاده الناس من عادات صالحة، تعارفوا عليها جيلاً بعد جيل، وهو باحترامه للعرف يكون قد شرعه للناس، وبناء على القاعدة الفقهية"العادة محكمة"ومقتضى ذلك استقرار المجتمع وضبط إجراء الأعمال وفق الأعراف التي في اعتبارها مصلحة معتبرة شرعاً... ويقصد بالعرف بصفة عامة، اعتياد الناس في مجتمع ما على ممارسة سلوك أو تصرف معين مرات متكررة ولفترة طويلة، ما يجعل الاعتقاد بين الناس جميعاً بأن ذلك السلوك أو التصرف هو قاعدة نظامية ملزمة، فالعرف قاعدة غير معروفة، ولكنه يتمتع بصفة الالتزام شأنه شأن القواعد المدونة. والأدلة على تحكيم العرف في قوله تعالى:"خذ العفو وأمر بالعرف"الأعراف 199، وقوله:"ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف"البقرة 227. وقوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة:"إن هذا البلد حرام، لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته ولا المعروف". إن شارع الإسلام كان له اهتمام بمراعاة العرف الصالح، إذ إن الإسلام جاء لإصلاح ما فسد من أوضاع الناس، ولم يكن هدفه هدم ما اعتاده الناس من عادات صالحة، لذا يشترك في السلطة التقديرية للإدارة في الفقه الإسلامي أن تراعي العرف في ممارساتها الإدارية، حتى لا تصادر قوانين الناس التي أقرها لهم الشرع الإسلامي، لكي لا يؤد العمل إلى فساد. 5- عدم مخالفة قواعد سد الذرائع: إن على رجل الإدارة، قبل أن يتخذ أي تصرف إداري، أن ينظر وأن يتأكد أن ذلك التصرف لا يخالف الكتاب أو السنة المطهرة أو أمراً مجمعاً عليه، ولا يخل بقصد من مقاصد الشارع، وأن يراعي العرف الذي تعارف الناس عليه... وإن سد الذرائع هو نوع من المصلحة لأنه"عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، قويت التهمة في أدائه، إلى فعل محظور"أو هو الطريق، والوسائل، حتى لا تؤدي إلى آثارها المقصودة سواء أكانت محمودة، أم مذمومة، صالحة أم فاسدة، ضارة أم نافعة، وقد بنى الشاطبي قاعدة من الذرائع على أصل مهم، ألا وهو قصد الشارع إلى النظر في مآلات الأفعال، سواء كانت موافقة أم مخالفة، لأن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الاحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو لمصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. لذا فإن النظر إلى المآلات لا يعتمد على مقصد العامل ونيتة بل على نتيجة العمل وثمرته، فبحسب النتيجة والثمرة يحسن العمل أو يقبح، ويطلب أو يمنع، لأن الأصل في اعتبار الذرائع سواء في سدها أم فتحها هو النظر إلى مآلات الأفعال، فيأخذ الفعل حكماً يتفق مع ما يؤول إليه سواء قصده الفاعل أم لم يقصده، أي أن العلاقة بين قاعدة سد الذرائع ومآلات الأفعال هي السببية، فالذريعة إذا كانت تؤدي إلى مفسدة أو ضرر سدت، وإذا كانت تؤدي إلى مصلحة أو خير فتحت، فالمال سبب والذريعة سبب. لذا على الإدارة أن تعمل سلطتها التقديرية، بحيث لا يكون في قراراتها المتخذة ذريعة إلى مفسدة يمنعها الشارع. جاءت هذه الضوابط لتقييد نشاط الإدارة في استعمالاتها لسلطاتها التقديرية، لكي لا تخرج عن الأصل، وهو أن تكون كل تصرفات الإدارة موافقة مع قواعد موضوعة من قبل، وأن تكون كل تصرفاتها موافقة لنصوص الشريعة الإسلامية، ذلك هو الأصل والله أعلم. المعهد العالي للقضاء جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية