لا أعلم كيف توظف فلسفة حقوق الإنسان رسمياً وإدارياً في المملكة العربية السعودية؟ وهي فلسفة يقوم أساسها على التناقض والجدل! وحقيق أن ما يلفت نظري، وأتمنى أن أكون مخطئة في ذلك، هو أن دور الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، أو اللجنة الوطنية المعنية بهذا المجال في السعودية، لا يزال القائمون عليها يتعاملون بحذر مع مؤسسات المجتمع الرسمية والمدنية، وربما يكون ذلك خشية من اعتبار نشاطهم تدخلاً في شؤون المؤسسات القانونية أو القضائية أو الأمنية في البلاد، خصوصاً عندما تطفو على السطح مسألة تعارض العلاقة بين القانون ومقتضيات احترام حقوق الإنسان... وهناك عامل آخر أضيفه لما سبق يوضح السبب في التعامل غير الملموس مع قضايا المجتمع، وأرجعه إلى غياب الأسس العلمية والثقافية لمفهوم حقوق الإنسان، وكيفية توظيفها في التعامل مع القضايا، ما أعطى انطباعاً عن سير أعمال المؤسسات المعنية بهذا المجال على طرق بيروقراطية جامدة، مثلها مثل أي مؤسسة رسمية أخرى في البلاد، فهي تنتظر أن ترفع إليها الشكاوى للنظر فيها، وتقوم على إصدار النشرات التي تعرف المجتمع بأعضاء اللجان وأخبارهم العملية، مثل عقد الندوات وحضور المؤتمرات والمحاضرات في الداخل والخارج... و... إلى آخره! وعندما نتطرق للحديث عن المفهوم الفلسفي لحقوق الإنسان، فإن أول خطواتنا في البحث تكون منصبة على عقد المقارنة بين المفهوم الفلسفي لحقوق الإنسان في الإسلام، وبين المفهوم الليبرالي الغربي الذي يسيّر قوانين المنظمة الدولية لحقوق الإنسان، وجسد التطور التاريخي للتجربة الغربية في العصر الحديث، وهنا سندرك جميعاً أين يكمن الخلل في المؤسسات الحكومية والأهلية المعنية بهذا الجانب الإنساني الخطير في بلادنا. إن مفهوم الإسلام لحقوق الإنسان تكون أساسه من الفطرة التي هي في الواقع تجسد حرية الإنسان في حياته، وهي الأصل والضمان، والتي يحققها الإنسان في التاريخ، وكذلك فهي دعوة أخلاقية تحتم على الإنسان أن يكون إنساناً حراً ويتمتع بالحرية التي كرمه الله بها، وذلك بالتماهي الذي هو شرط لتحقيق المرور من التصور إلى الواقع، ومن الفكر المجرد إلى الحياة، وعندها سيتحقق اقتناعه بأن ليس هناك"مطلق"إلا الله. ويكون حق الإنسان في العيش بحرية وكرامة إذا ما انطلق هذا المفهوم كأساس من"العقل"، إلا أننا سنصطدم كثيراً بالنقد في محاولاتنا لإطلاقه والتعامل معه واقعياً، وبهذا أقول، كما قالها كبار الفلاسفة، من قبلي:"ليس المهم هو أن ننجح في كل محاولة نقدية، ولكن المهم هو أن نبدأ بالمحاولة حتى لو تكررت إخفاقاتنا المتتالية عبر التاريخ". والأساس الفلسفي الليبرالي لمفهوم حقوق الإنسان بمصادره الأساسية هو في الواقع تعبير عن مفهوم الإنسان الغربي الذي يتمتع بما تكفله له العهود الدولية من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية القائمة على الأساس الفلسفي للمذهب الفردي، والتي تجسدت في الأنظمة الدستورية والقانونية، وفي الواقع الاجتماعي والسياسي في المجتمعات الغربية. وتقوم السياسات الخارجية للدول العظمى، التي يمثلها جيل القادة الذين حكموا ما بعد الحرب العالمية الثانية على تشكيل جزء لتوظيف مفاهيم حقوق الإنسان لدعم القوى غير الحكومية التي تربط بين هذا النظام الإنساني وبين جروح العلاقة مع الغرب، وتوظيف المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان في العالم للعمل على الدعاية السلبية ضد السلطات الحاكمة في دولهم من أجل أن يجدوا مسوغاً لربط المساعدات الخارجية بشروط تطبيق حقوق الإنسان، متناسين المبدأ المقدس القائل"بعدم التدخل"، ومتجاهلين مسألة الخصوصية والاختلاف إزاء نظام حقوق الإنسان الذي ينبع من ضرورة احترام الخصائص القومية والإقليمية والخلفيات المتعددة التاريخية والدينية والثقافية لدول العالم. ولو عدت مع القارئ الكريم إلى البحث عن بدايات تطبيق حقوق الإنسان في تاريخ المملكة العربية السعودية، لتوصلنا إلى أن هذه القضية الإنسانية قد جاءت متأصلة في الدين الإسلامي، الذي هو منهج وشريعة هذه البلاد، وذلك منذ عهد المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز آل سعود ? رحمه الله ? الذي بدأ العمل على تطبيق مبادئ حقوق الإنسان من منطلق مفهومه للحرية الإنسانية التي ذكرها القرآن الكريم، وأوضح حقيقتها المرتبطة بمفهوم الحرية التامة الكافلة لحقوق الناس جميعاً، والمنطلقة من مبدأ الإخاء والمساواة بين الصغير والكبير، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والسعي للعمل في هذا السبيل. ثم كان التطور التاريخي الملاحظ في حقوق الإنسان في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز ? رحمه الله ? الذي اتبع نهج والده بالنسبة لتطبيق مفاهيمه وفقاً للمبادئ الإسلامية، وبدأ في ذلك بأسرته، فساوى في المعاملة بين إخوته وأخواته، وكذلك بين جميع زوجاته وأبنائه... وكان إعلانه الرسمي إلغاء الرق في المجتمع السعودي عام 1960، مع الحث على عتق الرقاب. والواقع أن مشكلة الرق كانت إحدى المشكلات الكبرى التي واجهت الدولة السعودية الثالثة منذ تأسيسها، وقد بدأها الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، كما أشارت إلى ذلك الوثائق البريطانية، إلا أن إعلان إلغائها رسمياً لم يكن إلا في عهد الملك سعود، ثم استطاع الملك فيصل بن عبدالعزيز ? رحمه الله ? القضاء عليها نهائياً. وقد انطلق الملك سعود لتحقيق معنى حقوق الإنسان خارج حدود الدولة، وليعلن للعالم بأن من أهم المبادئ القائمة عليها سياسة المملكة العربية السعودية الخارجية هو ما ذكر في شرائع الدين الإسلامي بالنسبة لاحترام حقوق الإنسان، ومن ذلك قوله:"لقد كان أول أئمتنا كما يعلم الجميع هو من تبنيت دعوته الإسلامية العظمى حقوق الإنسان وكرامته". أكاديمية متخصصة في التاريخ المعاصر