شهد التاريخ على مدار السنين الكثير من الأمراض، التي أخذت شكل أوبئة هددت حياة الملايين من البشر، كالكوليرا والطاعون وآخرها الإيدز. أخطر ما في هذه الأوبئة، إلى جانب المعاناة التي تسببها للبشرية، أنها تحدث هلعاً في البنية الاجتماعية والاقتصادية، وقد تدمر الاقتصاد بأكمله. تاريخ الأوبئة في العصر الحديث سجل أوبئة عدة انتشرت في بلدان كثيرة في أفريقيا وآسيا، كما حدث في رواندا في عام 1994 عندما اجتاحها وباء الكوليرا، ومات ما لا يقل عن 48 ألف حالة في غضون شهر واحد في مخيمات اللاجئين في غوما، في الكونغو. كما انتشر المرض ذاته في اندونيسيا عام 1961، وسرعان ما انتقل إلى بلدان أخرى في آسيا وأوروبا وأفريقيا. وفي عام 1991 انتشر المرض سريعاً في أميركا اللاتينية، ليتسبب في وفاة نحو 400 ألف حالة في 16 بلداً. غير أن السعودية - وإن حماها الله من هذه الأوبئة -، تعاني مما يمكن أن يسمى أوبئة العصر الصناعي، ففي أجواء البيئة الصناعية تنتشر بعض الأمراض نتيجة محروقات المصانع. وتعتبر مدينة الجبيل الصناعية في"الشرقية"، أكثر المدن تضرراً من التلوث الصناعي. وتشهد مستشفيات المنطقة مراجعات عدة لمرضى يشتكون من الأمراض الصدرية وحساسية في الجيوب الأنفية، إلى جانب وجود نسبة ملحوظة من المصابين بالسرطان في المنطقة ذاتها. ويعزو المتخصصون ذلك إلى أن محروقات المصانع تنتشر في الساعات المتأخرة من الليل إذ لا توجد شمس تبخرها. تروي أم معاذ موظفة معاناتها مع أطفالها الخمسة المصابين بمرض الربو، وتقول:"منذ إقامتنا في الجبيل منذ عشر سنوات، والأوضاع الصحية لأطفالي في تدهور، خصوصاً في الساعات المتأخرة من الليل. وتضيف:"أصيب اثنان من أولادي بالتهاب الجيوب الأنفية، حتى أجروا عمليات بسبب مضاعفات الالتهاب". أما أمل الغريري فتحكي عن معاناتها من الأمراض التي تعاودها كل عام في موسم الحج، بسبب الوفود الهائلة التي تحضر للحج، إذ يزداد رمي النفايات بشكل ملحوظ، وقد تبقى مدة 24 ساعة في مخيمات الحجاج. الأمر الذي يزيد من انتقال الأمراض وانتشار العدوى. وترى الغريري أن معظم أهالي المنطقة الغربية والمقيمين فيها، يأخذون تطعيمات ضد بعض الأمراض خوفاً من انتشارها. وتشير الغريري إلى أن موسم الأمطار في جدة يعتبر موسماً"كارثياً"بسبب ازدياد نسبة الرطوبة، وانتشار المستنقعات، إذ إن بعض الأحياء تفتقر إلى"الصرف الصحي"، الأمر الذي يؤدي إلى انتشار البعوض والحشرات الناقلة للأمراض. وتقول:"بسبب بعوضة، أصيبت ابنتي بأحد الأمراض الذي استمر معها عامين كاملين" أربع سنوات تفصل بين ساكني حي"بترومين"والأحياء المجاورة في مدينة الدمام، وبين تمتعهم بهواء خال من التلوث. بضعة أمتار تفصل بين طرفين، يقف كل منهما على النقيض، وحده شارع بعرض 20 متراً يفصل بين مصلحة الأرصاد وحماية البيئة، ومصنع شركة الأسمدة العربية سافكو، ويقابل كل منهما مبنى، عدوه اللدود، وعلى رغم صدور حكم قضائي بإغلاق المصنع، بعد نحو نصف قرن من إقامته، بعد أربع سنوات من الآن، إلا أن ساكني الحي، يرون أنها مدة"بالغة الطول". ويتساءل منصور الغامدي، أحد ساكني الحي، عن"حجم التلوث الذي سيتواصل على مدى السنوات الأربع المقبلة"، متسائلاً"كيف هو حال الأجهزة التنفسية لدى ساكني الحي، وطلبة معهد الدراسات البحرية وجامعة الملك فيصل، التي تقع مقارهم التعليمية على بعد أمتار من المصنع، وتتناثر أدخنته في أفنية المعهد والجامعة". ويستشهد الغامدي بقصة وقعت لأحد معارفه، مشيراً إلى أنها"تؤكد حجم الخطر المحدق بنا". وتعود القصة التي يرويها إلى"قبل نحو عامين، عندما قرر صديقيّ أن يصحب أصدقاءه إلى منطقة قريبة من الحي، وقاموا بذبح شاة وتقطيعها، تحضيراً لجلسة شواء، إلا أنهم فوجئوا قبل أن يبدأوا بالشي بتحول لون اللحم إلى السواد"، مضيفاً:"كأنما ذر عليه فحماً مطحوناً". ويروي شاكر سليمان أحد ساكني"بترومين"قصة أخرى، مشيراً إلى أنها"تتكرر في شكل دوري". ويضيف:"ملخص القصة أن ساكني الحي عندما ينشرون ملابسهم البيضاء، يجدونها بعد ساعة أو ساعتين وقد كسيت باللون الأسود"، معتبراً أن ذلك"أقوى من أي دليل علمي يمكن تقديمه للدلالة على خطورة الوضع الذي نعيشه". ويستشهد خالد الدوسري الذي كرر ما قاله الغامدي وشاكر، على حجم التلوث ب"انخفاض أسعار الأراضي في المناطق القريبة من المصنع، وارتفاعها بعد خبر قرار الإغلاق"، مشيراً إلى أن"معظم أطفال الحي يعانون من مرض الربو وأمراض الجهاز التنفسي الأخرى، وفي شكل لافت، مقارنة مع بقية أحياء مدينتي الدمام والخبر". وعبر عدد من سكان الحي والمناطق المجاورة لها، عن رغبتهم في الانتقال من الحي، إلى أحياء بعيدة عن مصادر التلوث، معبرين عن سعادتهم بقرار الإغلاق، مستدركين أن"نبقى أربع سنوات في انتظار زوال الخطر، أمر لا يمكن تحمله". وكانت مصادر طبية مختلفة كشفت في وقت سابق، عن"تسجيل المنطقة الشرقية، أعلى نسبة في الإصابة بمرض السرطان، إذ بلغت 19 في المئة من إجمالي نسبة الإصابة في المملكة"، مرجعة أسباب الارتفاع إلى"التلوث الكيماوي الناتج من الغازات المنبعثة من المصانع". وعلى رغم نفي عدد من المصانع علاقتها بالتلوث، كشف تقرير صادر لحماية البيئة في المنطقة الشرقية أن"70 في المئة من مصانع الشرقية لا تتوافر فيها اشتراطات السلامة البيئية". وليس مصنع"سافكو"وحده من يدق ناقوس خطر التلوث البيئي وحضانة الأوبئة في المنطقة الشرقية، فنواقيس الأخطار في الشرقية تتعدى دخان المصانع، التي تجاور الأحياء وتنفث سمومها تجاهها، كما هو الحال في المدينة الصناعية الأولى في الدمام، وكذلك الجبيل الصناعية، فهناك المستنقعات المنتشرة، التي ستشهد ازدياداً خلال موسم الأمطار، الذي بات على الأبواب، التي اعتاد ساكنو المنطقة الشرقية على بقائها لأسابيع، وربما شهور. ما يجعلها بيئة خصبة ومصدراً جيداً لحضانة الأوبئة. وناشد علي النجار الجهات المعنية ب"استباق موسم الأمطار، وتحديد أماكن تجمع المياه، والعمل على تصريفها، حتى لا تحدث مشكلات تدفع إمارة المنطقة الشرقية لتشكيل غرفة عمليات، لمتابعتها، على غرار ما حدث العام الماضي". ولا تزال قائمة أخطار الأوبئة في المنطقة الشرقية حبلى، فمخاطر انتقال وباء الكوليرا من العراق إلى الأجزاء الشمالية من المنطقة، أمراً قائماً، وآثار التلوث البحري إبان حرب الخليج على البيئة النباتية والحيوانية، ما زالت ظاهرة، ما يجعل الشرقية تتصدر مناطق المملكة في كونها بيئة حاضنة للتلوث والأوبئة.