30ح سجّلت القصيدة العربية الحديثة عموماً والسعودية منها خصوصاً مراوحة بين حضور متواضع وقبول متردد، لتحل في الوسط الثقافي المحلي كإشكالية قابلة للمداولة ومثيرة للجدل، كونها تخرج بسياقها ودلالاتها عن المألوف، وتصنع لنفسها معاييرها الخاصة وأنساقها غير القابلة للثبات لتجعل من تحولاتها سياجاً تحتمي به من التصنيف وإسقاطاته، ما دفع الكثير من النقاد إلى نعتها بقصيدة النخبة، في ظل تحفظ البعض على منحها وصف"القصيدة"وتماهي آخرون معها بوصفها تزامنية مع مرحلة التحولات التي نمر بها، ليبقى لمعتنقيها الحق في إعجابهم بما يكتبون مراهنين على نجاحها في إثبات نفسها لأحقيتها في التجريب ولأسبقيتها في استيعاب المعطيات المعاصرة، مؤكدين أنهم سينامون عن شواردها ويتركون الرافضين والمنحازين في سهر مختصم. "الحياة"استطلعت آراء متخصصة ووجهات نظر لشعراء ونقاد سعوديين وعرب، تشرع أبواب أسئلة أكثر من فتحها آفاق إجابات. وفي البدء أوضح أستاذ النقد والأدب في جامعة الباحة الدكتور محمد عبدالرحمن يونس، أن القصيدة الحديثة نتاج معرفي لمجمل التراكمات الشعرية القديمة، الراسمة لخط مسار حقيقي على رغم كثرة أعدائها التقليديين، واصفاً سيرها بالهادئ كعادة الأشياء النامية ببطء والمعمّرة طويلاً. وحذر يونس في الوقت نفسه من الاستهانة بها واستسهال كتابتها، إذ إن كتابتها أعقد من كتابة النص العامودي والتفعيلي، واصفاً الكتابة من غير تمثل للخلفية التراثية والفكرية والصوفية وهماً وقناعة بما لا يقنع. فيما يذهب الناقد والشاعر الدكتور جمعان بن عبدالكريم، إلى أن قصيدة النثر جزء من المشهد الإبداعي محلياً وعربياً ودولياً، إلا أنها لم تكن تطوراً طبيعياً في مسار الأدب العربي، فهي كما يرى دخيلة وليست أصيلة، لكون روادها تأثروا بالآداب العالمية. واصفاً نتاجنا السعودي بالصدى لما أنتجه أدونيس وسعدي يوسف وأنسي الحاج، نافياً التميز عن الشعراء السعوديين في هذا النوع الشعري لأن المحاكاة والتقليد لا يمنحان مشروعية. من جهته، أخذ أستاذ النقد في جامعة الباحة الناقد سعيد الجعيدي، على القصيدة الحديثة انقطاعها وانبتاتها عن التراث، واصفاً كتابها العرب والسعوديين بالفقراء من الأسس المعرفية والنقدية العربية قديمها وحديثها، مستشهداً بكون المبدعين فيها قلة، نافياً عن نفسه الاستلاب، متحفظاً على من ركب الموجة من باب مجاراة الموضة على رغم البعد عن عوالم النقد المحلية والعالمية. ابنة غير شرعية ويرى الشاعر غرم الله الصقاعي أن القصيدة الحديثة مشروع قائم وقادم مهما حاولنا تجاهلها أو وصفها ب?"ابنة غير شرعية"للقصيدة العامودية أو التفعيلة، مؤكداً أنها لن تكتسب مشروعيتها القطعية في ظل استرابة البعض منها وتقوقعها في إطارها النخبوي، مشيراً إلى أن بعض الأسماء الشعرية الناهضة تسجل حضوراً مدهشاً بنصوصها، مستشهداً بنصوص علي بافقيه ومحمد الدميني وسعد الحميدين، مؤملاً أن تنضج تجربة الشعراء الجدد لما يمثله التجريب والتجديد من حياة في الشخص والنص. وذهب الشاعر أحمد السيد إلى أنه لا يمكن معرفة إن كان أو ليس لدينا قصيدة نثر إلا إذا عرفنا أولاً ما هي، ليمكن تتبعها بعد ذاك في بلادنا والحكم على وجودها من عدمه، مضيفاً أن الكثيرين يرون أن لدينا قصيدة نثر، ويعنون كتابات تخلو من الوزن، إذ إن قصيدة النثر نفسها، إن كان لها وجود يمكن تحديده، تتحمل المسؤولية لأنها لم تقدم نفسها إلا من خلال اسمها الموغل في التراث من خلال مفردتيه قصيدة ? نثر. من جهته، يطيب للشاعر عيد الخميسي نعت الحركة الشعرية الجديدة في السعودية أعني بذلك شعراء قصيدة النثر وشعراء التسعينات بالغنية والمتعددة، وتكاد تكون في نظره المتسيدة للمشهد الشعري الحالي، ذاهباً إلى أنها أرواح تتشابك والشعر بطريقتها وتسعى لتأسيس نصها الخاص المعبر عن زمنها المتقاطع والمجادل والمقاطع لتغيب الأصوات الكبرى داخل هذه القصيدة أي يغيب الشعراء المهيمنون عبر نسق القصيدة أو الحضور الشخصي، وفي المقابل فإنها فردانية غير مبهرجة يمكن استشفافها بمطالعة نماذج التجربة المميزة ونتاجها بما يمكن معه بحسب ظني تسمية عدد كبير من التجارب الشعرية السعودية، باعتبارها مميزة وواضحة أو كما أرى ذلك، ويمكننا في المقابل وكما في كل تجربة أن نشير إلى أن هناك تساهلاً وانهماكاً في"التَخَطّف"تمارسه شريحة كبيرة من الشعراء. إضافة إلى أنه لا وجود لقامات نقدية أو شعرية تعتاش على"الأبوة والتقديم والرصيد الرمزي - الخاوي عادة"فقد نجحت هذه الشعرية في أن تكون مركزاً طارداً لمثل تلك الرؤوس القديمة، فالنص الشعري يحضر بذاته من دون أية سلطة سواه وهذا مكتسب هائل للتجربة، قادر على تحقيق ذلك بنجاح. فالشعرية الجديدة التي تلت مرحلة التسعينات كانت في نماذجها المبشرة بالأخص امتداداً لهذا المشروع، ومن هنا يأتي انتشار هذه القصيدة وحضورها، إن في الوعي الشعري المقبل أو في مختلف وسائل النشر والقراءة غير الخاضعة لهيمنة الحرس القديم كالانترنت مثلاً. أما الشاعر عبدالرحمن موكلي فيذهب إلى أن من الأشياء المريعة في إعلامنا الرؤية القاصرة تجاه منجزنا الإبداعي، مضيفاً أن الأطم يتمثل في أسلوب المقارنة، علماً بأنه أسلوب عقيم وقائم على ثقافة المركز والهامش التي يجب تجاوزها، لأن هذه الثقافة في أصلها قائمة على رؤية قاصرة وإقصائية للآخر، ومن هنا والسؤال عن قصيدة النثر في المملكة؟ أجدها من أكثر تجاربنا الإبداعية التي تعكس التحولات في المجتمع، سواء على مستوى الرؤية أم اللغة، إذ حصل انزياح كبير للخطاب البلاغي، ودخول النحو الشفهي في تركيب الجملة، مع تحول الشاعر من النحن إلى الذات، خصوصاً جيل ما بعد التسعينات، الذي وجد التاريخ والزمن قد تحول إلى لعبة عدمية وسيطر المال وثقافة التسليع على كل شيء حتى للإنسان، ويختتم موكلي رؤيته بانتفاء الغرابة من النظرة القاسية لتغدو قصيدة النثر هي الأقرب للذات المغتربة، مانحة للشاعر روح المغامرة ليواجه قدره مع قصيدة النثر النص الذي بقدر تشظيه بقدر فتحه آفاق جديدة للشعر. ولسماع وجهة نظر محايدة وموضوعية نستعيد مع الناقد والشاعر عهد فاضل قراءته للقصيدة الحديثة عربياً وسعودياً فقال:"مشروع قصيدة النثر غير مكتمل ومصيرها وقدرها عدم الاكتمال باعتبار انعدام معياريتها وصعوبة إخضاعها للمعيار"، مفضلاً مبدأ العيار المقدم من ابن طباطبة طامحاً إلى عيار النثر بأكثر من مستوى، سواء ما تعلق منه بالموسيقى أم الإيقاع أم ما يخص تقنيات الكتابة التي انفتحت عليها قصيدة النثر بشكل متعمد أم غير متعمد. وأكد أن أهم فضائلها تكمن في تقنيات كتابتها على عكس الشكل التقليد المتفلت من التقنيات والمتمرد عليها والخاضعة لتقنيات الصوت، مرجعاً صعوبة التعيير إلى الانفتاح على تقنية المكتوب. وجيّر فاضل الفضل لقصيدة النثر في استيعاب السيناريو والدراما والصورة والحكاية والحكمة والإمضاء، إلا أن كسب كل شيء وخسارة الصوت يعد كارثة ينتفي معها معنى الكسب، مسلماً للشعر العربي بميزة الكشف عن معنى الشعر متمثلاً في الصوت الذي هو الوهم المواجه لكل الحقائق الخارجية. القصيدة السعودية وارثة للجميل والمعيب ولم يبد تحفظه على تجنيس قصيدة النثر وسعودتها باعتبار أننا نقول:"قصيدة النثر اللبنانية والمصرية والسورية"مع ثبوت المشتركات الواضحة للمتلقي والناقد، واصفاً القصيدة السعودية بالوارثة للقصيدة العربية بجمالها وعيوبها، ناعتاً تجربة عيد الخميسي بالمفرطة في"الحكاية والقوة السردية الهائلة والمبتكرة"، معللاً ذلك بالسعي"لتعويض نقص الصوت لتكون بديلاً عنها"، مع تحفظه على الإفراط في السرد"لأن الحكاية منظومة مكتملة والشعر انخطاف وتكثيف". ويرى فاضل أن تجربة أحمد الواصل"متأثرة بالتجربة المشرقية القائمة على صوغ العبارة ونحتها وعزل التجربة عن النص"، فيما تميزت تجربة علي الحازمي بالانفتاح"على فضائين مشرقي وسريالي واسماً نصه بالمبتكر والجريء والمخسّر، لأن قصيدته غير قابلة للتداول وهذا سحرها"، مضيفاً أن مشروع الحازمي خطر لجمعه بين الصورة والصوت معولاً على تجربته في الوصول متى حافظت على المعادلة ذاتها. وبخصوص البيئة وتأثيراتها في النص الحديث أحال إلى"سوزان برنار"التي"نعتت النثر بالمجانية القائم على مجتمعات مدنية متنورة مفتوحة تعنى بفكرة الاصطدام بحقيقة العالم وسقوط مبدأ النرجسية، فالقصيدة الحديثة بنت موت الإحساس بقيمة الأنا ولا يموت الإحساس إلا في مجتمع مدني، لأن الريف والصحراء يؤصلان النرجسية، إذ حيثما يلتفت الإنسان يجد نفسه، ولذا يصعب تداولها في مجتمعات محافظة وتقليدية". ويفضّل فاضل أن تكتشف القصيدة السعودية مدينتها وتمتلك أدواتها وتشكّل ذاكرتها الخاصة، مبدياً دهشته من كون مدن الشاعر السعودي خارج السعودية، لتقوم على التخيل والاستلهام ما انعكس على التجارب الحديثة من تخل عن المجانية، فالشاعر السعودي يسافر إلى مدينته البعيدة بيروت ? القاهرة ? دمشق ? بغداد، عوضاً عن اكتشاف الذاكرة بعيداً عن مفهوم الوراثة، مختتماً بوصف تجربة علي بافقيه بالقريبة إلى تشكيل ذاكرة خاصة وملامح لإعادة صوغ الأنا المصطدمة بالآخر والجماعة، داعياً الشعراء الحديثين السعوديين إلى التمسك بمدنهم لأنهم يسيرون باتجاه صحيح نحو خصوصيتهم، محذراً من الميل للظهور على حساب الشعر. ويرى الشاعر علي الحازمي أن :"التجربة الشعرية الحديثة أن الأجواء والمناخات المحرضة على تعاطي الشعر الحديث لدينا لا تزال بحاجة ماسة وملحة إلى عمل خلاق ودؤوب من القائمين على الشأن الثقافي في المؤسسة الرسمية، عن طريق تبني تظاهرات ومشاريع شعرية طموحة تسهم في شحذ الطاقات والمواهب الإبداعية لحراك شعري لافت". ويقول إن :"علينا أن نكون واقعيين أكثر وأن نتحلى بالشجاعة الكافية عندما نقول - بألم شديد - بأن قصيدة النثر تحديداً لم تحقق ذلك النجاح المنبري الموازي لحجم الاشتغال عليها كتجربة شعرية جديدة مغايرة، أغرت العديد من النقاد بالشروع في دراستها والتنظير لها على مدى ما يقارب ثلاثة عقود مضت. إن كثرة التظاهرات الثقافية والفنية التي تقام في البلدان العربية تمكن المتلقي من القيام بعملية فرز لميولاته الأدبية والفنية، بحيث يتسنى له أن يقوم باختيار المكان أو الوجهة المناسب له لحضور فعالية ما تقام فيها، على العكس مما يحدث لدينا محلياً، فالأنشطة والفعاليات الثقافية القليلة والنادرة تحرم بدورها المتلقي من العثور على خيار مناسب يتفق مع ميوله وذائقته الخاصة المستقلة، لذلك فهو يذهب للفعاليات مكرهاً لا بطلاً، الأمر الذي يعيق تماهيه مع معظم الأنشطة التي يحضرها، كما أن حال الصدام والإلغاء الذي تصدر عنه عادة، تعود ? بلا شك - لذلك القمع الذي يمارس عليه بالأساس، في غياب روافد ثقافية مهمة - ربما وجد نفسه فيها أكثر من غيرها - كالمسرح والسينما وغيرهما".