لقد حَفِظَ لنا التاريخ أخبار كثير من الطوائف المتفاوتة في البُعْدِ عن المنهج القرآني، التي نَبَتَتْ على جسم الأمَّة الإسلامية، والتي لم تنشأ نتيجة بحث علمي خالص من الشوائب، وإنما كان للميول النفسيَّة والدوافع السياسية دور كبير في نشأتها. هذه الفرق أذكاها أبطالُها بتهييج النفوس بالدعوة للانتصار للطائفة، وإلهاب العواطف، فخلُوّ هذه الفِرَق من الحجج والبراهين دَفَعَ أصحابَها إلى فرض آرائهم بأسلحة عاطفية، أي بالزجر والتخويف والإكراه والقهر، ولذلك سمَّاهم أئمَّتُنا"أهل الأهواء"، وما ذاك إلا لِتَسَلّط أهوائهم القلبيَّة على أقوالهم وأفعالهم، وهذا نقيض ما جاءت به الشريعة الإسلامية من تحرير العقول من رِقِّ الهوى. هذه الفرق نشأت في المجتمع الإسلامي، فوَجدَتْ غذاءها في عامِلِ الكَبْت والحِرمان، وما ينبغي أن نلْحظه هو أن هذه الفرق زالت من مجتمعاتنا حين زالت بعامل عدلٍ وحرِّيَّة وحِوارٍ، ولعلَّ خير شاهد على هذا ما حدث من سيدنا عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، حين بسط العدل للجميع وكفَّ يدَ الظلم والحرمان عنهم، فلم يكن تعامله معهم تعامل القطب الأوحد الغالب الذي يَقهرُ غيرَه ويفرض عليهم الانصياع لأوامره، ثم ناظرهم بالحكمة وجادلهم بالحسنى. لقد عانت الأمة كثيراً من فتن هذه الفرق التي فرضت اعتقاداتها على الناس بالإكراه، وأقرب مثال إلينا ما حصل من قومٍ حكموا مصر في عصرٍ من العصور، وحكموا تونس كذلك في فترة من الزمن، وحَمَلوا الناسَ على القول بآرائهم قسْراً، فلم يكن ذلك القهرُ والإكراه بِمُجْدٍ شيئاً، إذْ حين أُتيح للناس العيش بحرِّيَّة وأمان، عاد الناسُ إلى ما هم عليه، وذهبت آراء هذه الفرقة وأصبحت تاريخاً يُحْكَى. ولعلَّنا نستفيد من تجربة سيِّدنا عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، أن علاج الطائفية يجب أن يكون علاجاً مصدره الشريعة، ولا يصحُّ أن يكون بالحميَّة الجاهليَّة، ولا بردود الأفعال أي بطائفية مماثلة، بل بالعدل الذي تفرضُهُ القوَّة، فالإسلام لا يبيح الاعتداء على المدنيين، لا على دمائهم ولا أموالهم ولا أعراضهم، بأيِّة ذريعة، وإذا كنا نستقبح ما وقع من بشاعة وقلَّة أدب في إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين رحمه الله، ومثلُ ذلك ما يقع في العراق من تفريغٍ للأحياء والمدن من سكَّانها بسبب انتمائهم المذهبي، ومن قتلٍ على الاسم، ونرى ذلك عنواناً لِفَقْدِ المشاركين في ذلك صفات الرُّجولة والمروءة، فإنا لا نستبيحُ لأنفسنا أن نفعل كما فعلوا. بل إن الجهاد لَمْ يُفرض في الإسلام لأذية الناس، وليس هو مقصوداً لذاته، وإنما لِبَسْط العدل بين الناس، فإن ارتدعَ المسيء عن إساءته تركناه، وإن اضطرَّنا بأفعالِهِ المشينة إلى القوَّة استعملناها مِن غير ظُلمٍ ولا اعتداء. وتاريخنا يشهد لنا، فالملاحظ في تاريخ العلاقة بين المسلمين وغيرهم في الشرق والغرب، أننا إذا دخلنا بلداً لا نستبيح أن نُتلف شجرةً فضلاً عن أن نسيء إلى أحدٍ أو أن نقتل، بل نفرض العدل باللين إن أمكن، وإلا فبالقوَّة، أما الآخرون فالتاريخ يشهد في المشرق والمغرب والأندلس أنهم إذا دخلوا بلادنا فإن الدماء تسيل، والتشفِّي يأخُذُ مداه البعيد، فرحم الله القائل: مَلَكْنا فكان العَفْوُ مِنّا سَجيّة/ ولمّا مَلَكْتُمْ سالَ بالدّم أبطَحُ / وحلّلتُمُ قتل الأسارى وطالما/ غَدَونا عَلَى الأسرى نَمُنُّ ونصفحُ / فحَسْبُكُمُ هَذَا التفاوتُ بيننا/ وكلُّ إناء بالذي فِيهِ ينضحُ.