ما ان يمر طلال عبدالله قريباً من مزارع قريته، وتحديداً أمام قنوات الصرف الزراعي، حتى ينتابه شعور غريب، إذ تتزاحم أمامه ذكريات"التشفيط"التي يحاول ان يمحوها من ذاكرته، بعد معاناة دامت طويلاً معه. فقبل نحو عشرة أعوام كانت قنوات الصرف الزراعي الملجأ الوحيد له، حين يهرب من منزله"المشحون بالضرب والشتم والقساوة"، التي كانت تصدر من والده الذي يصفه ب"العصبي القاسي"، إلى عالمه الخاص، الذي أدمنه، حيث كان يتعاطى المذيبات، أو ما يعرف محلياً ب"تشفيط الغراء". يقول طلال:"حين يبدأ والدي بالصراخ المعتاد أعلم أن مشكلة ستقع على رأس والدتي أولاً، ولاحقاً ستشملنا جميعاً، وإن لم نكن مذنبين، ولكن لمجرد أن يبرز أبي عضلاته، ويثبت أنه سيد المكان، فينهال علينا بالضرب، وغالباً ما تكون والدتي درع الوقاية، الذي يستقبل اللكمات والضرب نيابة عنا". حين تبدأ هذه الطقوس يندفع طلال خارج المنزل، بحثاً عن أي شيء ينسيه هذا العذاب، حتى تعرف على شابين كانا"يرفضان واقعهما مثلي"بحسب قوله، فأرشداه إلى طريقة"كانا يظنان أنها أفضل طريقة للنسيان". ويضيف"في البداية كنا نسير على أقدامنا مسافات طويلة، ولم نكن نفترق أبداً، حتى الساعات المتأخرة من الليل، وكم كنا نسعد حين نسمع أحداً ما ينادينا"صايعين"أو"دشر"المنحرفين، فهي كلمة تعني لنا الكثير، لأنها تجعلنا نظن أننا أقوياء ومتمردين". ولم تكن المشاكسات والمناوشات والألفاظ البذيئة التي تعلمها طلال كافية لأن يكون"منحرفاً"في الصورة الكاملة، حتى جرب يوماً"التشفيط"، الذي اقترحه عليه الصديقان"في البداية رفضت وبشدة، وكنت مجرد مشاهد، إلا أنهما استهزآ بي، واتهماني أنني لست رجلاً، فقررت أن أحصل على صك الرجولة بالتجربة، فأخذت الكيس المملوء بالغراء واستنشقت بعمق، ووجدت نفسي في مكان آخر غير الذي كنت فيه، وعلى رغم ان الوقت لم يكن منتصف الليل، بل الظهر، لكنني رأيت النجوم، وعلمت لاحقاً أنني غبت عن الوعي فترة طويلة". واعتاد طلال على هذا الإدمان، الذي اختار له عزلة"تفي لأداء طقوس النشوة المزيفة"، وغالباً ما تكون في ساعات الليل الأخيرة، حيث الهدوء والطمأنينة"بعد أن أصل إلى مرحلة الرغبة في التشفيط لا أجد مكاناً أفضل من أسفل جسر المصرف الزراعي، فهو يشبه الجحر، لذا أختبئ فيه غير مبال بالثعابين أو العقارب، وأي خطر يمكن أن يضر بي، وكل هذا في سبيل تعاطي الغازات التي تجعلني في حالة هلوسة". ويتحدث عن طرق كان يستخدمها في إدمانه، مؤكداً أنه استحدث طرقاً لإشباع رغبة التشفيط"كان المعتاد أن نضع الغراء اللاصق الأميركي أو الألماني في كيس بلاستيكي، ونضيق فتحته، ونضعه في أفواهنا، ثم نسحب الهواء بقوة، لتصل الغازات والأبخرة إلى الدماغ مباشرة، ولاحقاً كنا نستخدم علبة المشروبات الغازية، ونضع فيها البنزين أو المذيبات، ونضع قشة المص في أنفنا، ثم نسحب بقوة، وفي الآونة الأخيرة كنا نستخدم روث البقر، ونستنشقه بقوة، وكان له تأثير أقوى". عاش طلال حال ضياع وعصبية، حتى جاء يوم تغيرت فيه موازين حياته"رجعت أترنح من مخبئي فجراً، فاستقبلتني أمي، التي بدأت بعتاب أم خائفة على ولدها، بيد ان عقلي كان يترجم ألفاظها بخلاف ما كانت تنطق به، وكنت أحسبها تشتمني وتسيئ إلى كبريائي، فانهلت عليها ضرباً وشتماً وركلاً، حتى أوقعتها على حافة الدرج، فسقطت على جبينها، الذي سالت منه الدماء كالسيل، وغابت عن الوعي". هرب خوفاً من موت أمه ومساءلته قانونياً، إلا أنها لم تصب إلا بجرح قطعي عميق، وارتفاع في درجات الحرارة، وكانت تلح على رؤية ابنها، الذي وصله هذا الإلحاح"ذهبت إليها خوفاً أن أفقدها قبل أن أعتذر منها، وحين وصلت استقبلتني بدموع الحسرة، ومنذ تلك اللحظة قررت التوبة عما كنت فيه". ساعده أحد أقارب والدته في إيجاد عمل في مدينة الدمام، لكن الأيام الأولى للتخلص من التشفيط لم تكن سهلة"كنت أتقيأ باستمرار، وأصاب بإغماء وغثيان ودوار وآلام في المعدة وضيق في التنفس، واستمرت هذه الحالة 13 يوماً، حتى بدأت الأمور تتحسن شيئاً فشيئاً". ويؤكد أن السبب الرئيس في انتشار هذه الظاهرة"سهولة الحصول على أدواتها، فإذا دخل طفل أو مراهق إلى مركز تجاري ليشتري غراء أو مواد كيماوية أو غازات متطايرة، فلن يجد من يمنعه أو يسأله عن سبب الشراء"، مضيفاً"سعرها لا يتجاوز خمسة ريالات فقط"، محملاً الأسرة المسؤولية كاملة عن انجراف المراهق إلى التعاطي، فغالبية الآباء"ينامون من دون التأكد من وجود أبنائهم في المنزل، ما يعرضهم إلى الوقوع في براثن الانحراف"، مطالباً ب"مراقبة الأماكن التي يحتمل التعاطي فيها". ويصف الشعور الذي ينتابه عند التعاطي"أشعر في البداية بالدوار والاسترخاء، الذي يشبه الشلل والهلوسات البصرية، ثم فقدان الشعور بما يحيط بي، وغالباً ما أشعر بالغثيان والقيء". ويصاب المستنشق بالاختلال وفقدان الوعي والتعرق الغزير، ويؤدي استنشاق كمية كبيرة إلى الوفاة نتيجة حدوث الاختناق، ودخول الأبخرة إلى الرئتين والدم، مسببة أضراراً على الكبد والكلى والقلب والجهاز العصبي والتنفسي، ومن الممكن أن يفقد المتعاطي بصره، لتأثير هذه المواد على العيون. وتحذر دراسات طبية من"انخراط المتعاطي في عالم الجريمة والعنف والاغتصاب والسرقة، نتيجة تأثير المخدر، وحاجته إلى التعاطي باستمرار، وهي خطوة لتعاطي أنواع مختلفة من المخدرات". وينفي طلال أي صعوبة في الرجوع والتوبة، مؤكداً"أن المسألة تحتاج إلى عزيمة وإرادة فقط، والخطأ الذي يعالج ولا يرجع الإنسان إليه يكون منسياً إلى الأبد". وظهرت أخيراً، صورة غريبة من صور التشفيط، بعد أن لجأ مراهقون إلى تشفيط بقايا الصراصير بعد سحقها، وذلك بأن يجلب المراهق وعاء صغيراً، ويغطي به الصراصير ويثقب ثقباً صغيراً، يستنشق منه خلاصة الرائحة وبتركيز عالٍ. وتعد المذيبات العضوية الطيارة المادة الأساس لدى مدمني التشفيط، وهي مواد كيماوية لها خاصية التبخر والتطاير مثل البنزين والإثيل والكلوروفورم والأسيتون، وبعض سوائل التنظيف والغراء ومزيلات البقع والطلاء، وباستنشاقها يحصل المتعاطي على تأثير المخدر. ويصف خبراء تأثيرها بأنها تشبه تعاطي الكحول"حيث يتم امتصاص هذه المواد بعد استنشاقها من طريق الأوعية الدموية المنتشرة في الرئة، لتصل إلى الدم الذي يحملها إلى المخ، فتسبب تثبيطاً في نشاط مراكز في الجهاز العصبي، وتؤدي المدوامة على استنشاقها إلى الإدمان عليها". ويعرف الممارس لهذا الإدمان بعلامات مُميَّزة، منها الاسترخاء والتلعثم في الكلام والهذيان واختلال التوازن، وغالباً ما تسبب الصرع ووهن الأعصاب والقيء والغثيان المستمر والطفح الجلدي حول الأنف والفم، وتصيب القلب والكبد والكلى بقصور من طريق وصول الأبخرة إلى الرئتين. كما يصاب المدمن بفقر دم شديد، مع تلف في خلايا المخ. وسجلت الإحصاءات الطبية حدوث وفيات كثيرة نتيجة الاختناق، لأن هذه العملية تمنع وصول الأكسجين للدم. ومن أسباب انتشار هذه الظاهرة بين المراهقين توافر أوقات فراغ كبيرة لديهم، وعدم استغلالها فيما يفيدهم، ومجاراة أصدقاء السوء، وقلة المراقبة الأسرية لعدم تفرغ الأهل وانشغالهم الدائم عن متابعة ومراقبة أولادهم. وتشير إحصاءات إلى أن نسبة الإدمان بين المراهقين كبيرة، لذا تم افتتاح عيادة خاصة للمراهقين في مستشفى الأمل في الرياض للتعامل مع تلك الحالات. ومن خلال ملاحظات استشارية الطب النفسي للأطفال والمراهقين في مستشفى الملك خالد الجامعي في الرياض الدكتورة فاطمة الحيدر، أكدت"حجم المشكلة من خلال عملها كاستشارية نفسية للأطفال والمراهقين ومن خلال دراسة أعدتها بعنوان"أبناؤنا والإدمان"، تحدثت فيها أن غالبية حالات إدمان المراهقين تكون على النيكوتين، والمنبهات، ثم المذيبات الطيارة التشفيط". وأثبتت دراسة أخرى على الأحداث أن"30 في المئة من الموجودين في دور التوجيه الاجتماعي يتعاطون المذيبات الطيارة كحالة إدمان، ويمثل هذا التعاطي سبباً رابعاً لدخول الدار". وأشارت إلى أن"التدخين هو البوابة الأولى للإدمان بين المراهقين. ويبدأ الإدمان غالباً في المرحلة الدراسية المتوسطة على المذيبات الطيارة، لتوافرها وسهولة الحصول عليها ورخص ثمنها، ويمكن معرفة احتمال استخدامها من الرائحة والآثار العالقة في الملابس ووجود مذيبات في غرف المراهقين وتكرار شراء الغراء من دون حاجة، ووجود علب فارغة في رائحة غريبة". وتشير الدراسة إلى"الدور الوقائي الذي تلعبه الأسرة وأهمية تحسين مهارات الوالدين في التعامل مع أبنائهما الأطفال والمراهقين، والتدخل المبكر لمعالجة الأمراض النفسية الخاصة بالأطفال كالعدوانية وفرط الحركة".