سألت أحد الأصدقاء وهو رجل أعمال يمتلك عدداً من المستوصفات الطبية عن أخباره وأحواله، فأجابني بصراحة متناهية: إن طبيعة عملنا تشبه الى حد كبير عمل حفاري القبور، فنحن نعيش على مصائب الآخرين. وأضاف بصراحة أكثر: إن انتشار فيروس في احد المواسم كفيل بإنعاش أرباحنا. احترمت فيه الصدق وتسمية الامور بأسمائها، فقلة من الناس يستطيعون ذلك، فقدرته على رؤية الجانب السيء في تجارته دليل على انسانيته وقربه من ضميره. بعضهم يحاول إقناعك بمدى إنسانيته وفضله عليك، في ما تمتد يده لأخذ كل ما يستطيع من جيبك. وهذا قريب جداً من تعريف متطرف للتجارة"أنها فن الاستيلاء على النقود من الآخرين من دون اللجوء الى العنف"، هناك إشكالية دائمة وصراع بين المصلحة الخاصة والعامة، ليس في المجال الطبي ولكن في كل المجالات تقريباً. فسعي الفرد وراء كسب لقمة العيش له ولعائلته تصطدم احياناً بحواجز اخلاقية، وتمر في كثير من الاوقات عبر تقاطعات طرق محيرة، ومثل هذه الاشكالات لا تأتي عادة بالابيض والاسود، فهي متداخلة وغير واضحة. لكن القرار في النهاية يعتمد على اخلاق ومبادئ الفرد وعلى طبيعة الاخلاق السائدة في المجتمع، من حيث التراحم والترابط او الانانية وتغليب المصلحة الخاصة. قد تكون القاعدة الذهبية في مثل هذه الظروف التي يمكن تطبيقها في أي مكان وزمان، هي ان تفعل ما ترضى ان يُفعل بك، في كل المجالات تبرز هذه الاشكالية ونحاول في الغالب تجاهلها والتقليل من اهميتها، ولكن عندما يحاول البعض التكسب من مصائبنا نغضب، وتعود هذه الاشكالية لتطل برأسها من جديد. لعل اوضح مثال في الوقت الراهن هم تجار السلاح ومتخصصو صناعة الموت، فالخلافات والصدامات الفكرية والعقائدية التي تؤجج في كل مكان يترجمها هؤلاء الى ارباح ومكاسب هائلة، وحتى على المستوى البسيط من المهن التي تقدم الخدمات والمساعدات للناس تكون هذه الاشكالية حاضرة، مثلاً الميكانيكي صاحب الاخلاق العالية، ماذا يحدث له لو اهتم الجميع بصيانة سياراتهم ولم تعد في حاجة للاصلاح؟ الا يعني ذلك افلاسه وخراب بيته. تخيل ماذا يحدث بمحال البنشر لو تنبهنا قليلاً اثناء القيادة وتفادينا المسامير وقطع الحديد الملقاة على الطريق، اذكر انه راجت اشاعات منذ مدة طويلة، ان احد اصحاب هذه المحال يرمي المسامير في الطريق من اجل زيادة الدخل، هذه كانت اشاعات يدفعها مجرد الحسد بسبب حظه، لأن معظم اعطال الاطارات تحدث قرب محله، تلاحظ مثلاً انه عندما تقع حادثة لك او تتعطل سيارتك في منطقة نائية فإن اجرة سحبها في الغالب تتوقف على سوء ظروفك. فكلما زادت الظروف سوءاً زادت الاجرة المطلوبة. حتى في المجالات الابداعية والادبية هناك فرصة للتكسب من المصائب، فالشاعر الذي تفجر هموم امته قريحته وتمنحه الشهرة هو مدين لهذه المصائب. وكذلك الكوميدي الذي ترتفع اسهمه بزيادة معدل الفساد في المجتمع، لأنها توفر مجالاً خصباً لإضحاك الآخرين على المفارقات. اذكر انه عندما كنت اعمل غرفة الاخبار في الاذاعة قبل سنوات، ان وقوع كوارث او مصائب كبيرة في أي مكان في العالم يمنحنا الحيوية والنشاط ويبدد الملل الذي نشعر به. وهذه مرحلة ليست بعيدة كثيراً عن الشعور بالسعادة، وهذه فكرة مروعة لا يستطيع احد الاعتراف بها، فالكوارث والمصائب لصناعة الاخبار هي بمثابة الوقود الذي كلما ارتفعت قيمته زادت من الانتعاش والنشاط، فلا شيء يرفع من اهمية أي وسيلة اعلام اكثر من وقوع الكوارث والمصائب. والمشكلة انه عندما لا تقع كوارث او مصائب فان بعض وسائل الاعلام لا تبقى مكتوفة الايدي بل تسعى لاختلاق المشكلات وتكبير السلبيات لمجرد لفت الانتباه والشعور بالاهمية، وهذا أخطر من الكوارث والمصائب نفسها، لأن الموضوع يصبح اشبه بمرض الوهم الذي لا يرجى له شفاء. [email protected]