لشهر رمضان الكريم نفحات روحانية تنبعث بأريج الإيمان وشذى أذكار الرحمن، ومع حلوله كل عام تنبعث تلك النسمات الرمضانية من جديد ممتزجة بعليل المدينةالمنورة لتوقظ في الأذهان ذكريات لا تنسى. ربما يعود ذلك لخصوصية منطقة المدينةالمنورة واستقبالها لجموع الزوار القادمين من شتى بقاع العالم ليشهدوا صيام هذا الشهر العظيم في مثوى النبي الكريم، مستأنسين بجوار المسجد النبوي الشريف. ومن طبيعة الأيام المدينية الرمضانية الجميلة التي يعلو فيها صوت أذان التراويح من المسجد النبوي الشريف والمساجد الأخرى البعيدة أن تجتمع العائلة للمباركة، ولا تنسى سيدة مثل رقية 65 عاماً، أن تحكي لأحفادها أجمل ذكريات رمضان التي تكتنز بها مخيلتها قائلة:"كنا نجتمع صغيرنا وكبيرنا على مائدة الإفطار بمختلف الأصناف التي نخرج منها يومياً موائد للزوار لتحصيل أجر إفطار للصائمين، وكنا نسكن بالقرب من العطن، وموقع العطن جهة جبل سلع، الجبل الذي كان يعلوه مدفع رمضان، كنا في تلك الأيام نصوم ونفطر على أصوات تلك المدافع". وتفسر رقية ماهية تلك المدافع قائلة:"لتلك المدافع إشارة لإطلاقها، فهي عبارة عن لمبة حمراء في أعلى المنارة الرئيسة يشعلها المؤذن فيطلق المدفع صوته ويفطر عند دخول رمضان ودخول العيد، وكنا ما أن نسمع صوت مدفع رمضان حتى نعرف انه قد حان وقت أذان المغرب الذي يصدح صوته في كل أنحاء المدينة، إذ يحل الهدوء في ساعة الإفطار"، وتستعيد طفولتها قائلة:"كان لمدفع رمضان صوت مميز نترقبه من مشربيات ورواشين شبابيك المنازل، كما ننتظر سماعه قبل أذان الفجر ووقت الإمساك من عام إلى عام". وتعتقد رقية،"أن القليل من أبناء هذا الجيل رأوا أو سمعوا مدفع ليالي رمضان"، ولا يكاد شريط ذكريات السيدة رقية ينقطع حينما تصف شوارع المدينةالمنورة في رمضان، حتى تقول:"كانت الأحياء والشوارع تتزين بأكشاك مزركشة وعربيات مزينة يبيع أصحابها الحلويات والبليلة وبسبوسة"اليماني"من أول ليلة في شوارعها وأحيائها ليستمتع الصغار وحتى الكبار بشرائها كوجبة خفيفة ومفيدة ما بين الفطور والسحور، كما يلعب الصغار بفوانيس رمضان التي تنير الحواري والأزقة ليلاً". ولا تقتصر ذكريات رمضان على صوت مدفع رمضان فحسب، لأن هناك كماً من الذكريات المسموعة التي تحيا فور ذكرها كصوت المسحراتي، إذ تسترجع السيدة شريفة سماع صوت المسحراتي فتقول:"كان عم شحاتة المسحراتي يدور على البيوت، إذ كانت المدينة في تلك الأيام صغيرة وكان - رحمه الله - يطوف على البيوت ويقول"قوم يانايم وحد الدايم .. عبي سحورك ياصايم"، وكان يردد تلك الكلمات التي لها وقع في النفوس بوقع نقر الطبلة الصغيرة التي كان يحملها بين يديه كما كان يردد الشهادتين طوال الوقت وبعض الأدعية المسجوعة"، وتضيف:"كان العم شحاتة لا يأخذ شيئاً في مقابل هذا العمل حتى لا يضيع عليه الأجر". وكان لصوت المسحراتي نكهة مميزة تختص بليالي رمضان ليستيقظ الناس على صوته المقترن بصوت الطبلة قبل موعد السحور، وتضيف شريفة مسترجعة لتلك الذكريات:"كنت أسأل والدتي وأنا طفلة أين يذهب المسحراتي بعد قضاء ليالي رمضان، لتعودنا على وجوده في هذه الأيام فقط، مع أننا كنا نراه في ما خلا رمضان في هيئة السقا الذي يجلب المياه للبيوت".