اطلعت على مداخلة الأخ عبدالله بن ربيعان في صحيفة "الحياة" ص 16 يوم الجمعة 2005، تعليقاً على ما ورد في اجابتي عن سؤال طرحه عليّ محرر"الحياة"ونشر بتاريخ 28 آب أغسطس، بخصوص تدخل الدولة في ضبط أسعار السوق لكي لا ترتفع تجاوباً مع زيادة رواتب موظفي الدولة، وقد دعوت في مداخلتي إلى الاحتراس من دعوة الحكومة للتدخل في حركة الأسعار، لأن تدخل موظفي الحكومة لضبط الأسعار عند الحد الذي تراه الدولة ملائماً، أو عادلاً، سيعود بالضرر على الاقتصاد، وعلى المستهلك في نهاية المطاف، بأكثر مما يمكن أن يكون في هذا التدخل من فائدة. وقد أشار الأخ عبدالله إلى أن هذا الرأي الاقتصادي الليبرالي"فيه الكثير من المنطقية، ولكنها للأسف منطقية نظرية تحتويها بطون الكتب ومتونها أكثر منها واقعاً حياتياً ملموساً". ورداً على ما أورده الأخ عبدالله، أقول: إن المنهج الاقتصادي الحر المؤسس على الديموقراطية الاقتصادية القائمة على حرية القرار الاقتصادي لجميع مكونات المجتمع الاستهلاكية والإنتاجية العرض والطلب أثبتت أسسه وقواعده المنطقية في مؤلفات المدرسة الكلاسيكية الاقتصادية، قبل آدم سميث وعند آدم سميث وبعد آدم سميت، وهذا ما يكن تمسيته بالجانب النظري لنظرية الاقتصاد الحر. أما الجانب العملي لهذه المدرسة الاقتصادية الليبرالية فحدث ولا حرج. ففي العقد الأخير من القرن المنصرم والعقد الأول من هذا القرن الواحد والعشرين، تحولت معظم اقتصادات العالم إلى الاعتماد كلياً على آلية السوق في تحديد الأسعار سواء لعمليات الإنتاج، أو علميات الاستهلاك. كما أن ما بقي من الدول الاشتراكية التي لا تزال تولي دوراً مهماً للدولة في مجال الإنتاج مثل الصين، بدأت بالاعتقاد جزئياً وتدريجياً على آلية السوق في مشوار طويل للوصول إلى تحرير الاقتصاد والأسعار من سيطرة الحزب والدولة. إن موظفي الحكومة وإن غلب على بعضهم المصلحة العامة وهذا هو النادر، فإن معظمهم تغلب عليه نزعة المصلحة الشخصية، فيكون الفساد الاقتصادي هو الأقرب إلى الخروج من تحت عباءة الحكومة بدلاً من إصلاح الأسعار وضبطها، لتحقيق المصلحة العامة. هذا هو الواقع العملي ليس المحلي فقط، ولكنه الدولي أيضاً. والاقتصاد هو صنو السياسة وشريكها في بناء المجتمع، فكلما اقتربت السياسة والاقتصاد من الآلية الديموقراطية التي تؤسس على حرية الفرد في قراره الاقتصادي والسياسي، كمحرك ومدير لها، وابتعدت عن سيطرة الحكومة أو قلة من الناس، كلما كان ذلك في خدمة المصلحة العامة للفرد والمجتمع سوياً. ويرجح الأخ عبدالله بن ربيعان كما يقول في مداخلته، نظرية الاقتصادي المشهور جون كينز الذي يقول إنه ينادي"بتدخل الدولة لضبط الاقتصاد، وأيضاً إنعاشه من خلال سياستها النقدية والمالية من إنفاق وضريبة وغيرها"ومن دون الدخول في تحليل أكاديمي لنظرية كينز وما لها وما عليها، أقول إن كينز من المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية، وقد بنى نظريته على أن عملية انخفاض الأسعار في مرحلة الكساد التي تقود عملية التصحيح والخروج من الكساد، من خلال زيادة الاستهلاك ليست مرنة، بل إنها تقف عند حد معين يعوق انطلاق عملية الانتعاش، فأوصى بزيادة الانفاق الحكومي لزيادة حجم الطلب. لقد انتقد الكثيرون من قادة الفكر الاقتصادي نظرية كينز وبينوا عيوبها، وعلى رأسهم باتنكين وغيره، وفي الجانب الآخر فإن مجموعة من الاقتصاديين وقفوا مع نظرية كينز وطوروها وعدلوا فيها. لكن ما أريد أن أقوله هنا أن الاقتصادي الإنكليزي الكبير جون كينز لم ينادي"بتدخل الدولة لضبط الاقتصاد"كما يرى الأخ عبدالله بن ربيعان، إن كان هذا ما يقصد. فكينز الذي تولى منصباً حكومياً وزارياً في وقت تعاني فيها بريطانيا والعالم من انكماش اقتصادي، تقدم بوصفة طبية رأى أنها تساعد على زيادة حجم الطلب في الاقتصاد وبالتالي الإسراع بعملية الخروج من مرحلة الكساد الاقتصادي، وكانت وصفته تقول بقيام الدولة بزيادة"الطلب الحكومي"لتشغيل الناس ولو بنقل جبل جليد من مكان لآخر. وكما ذكرت، فقد أظهرت الكثير من الدراسات النظرية والميدانية للفترة التي تلت النظرية الكينزية مآخذ كثيرة عليها ليس المجال هنا للحديث عنها. ما يهمني قوله هنا، إن النهج الليبرالي الاقتصادي يطالب الدولة برفع يدها عن التدخل في آلية ضبط الأسعار، وتحديد حجم الإنتاج والاستهلاك، الذي هو من شأن القرار الجماعي لأصوات المواطنين المتمثلة في العرض والطب في سوق السلع والخدمات استهلاكاً وإنتاجاً... ويكون السؤال إذن، ما هو دور الحكومة في إدارة الاقتصاد؟ وهنا أقول إن دور الدولة الأساسي في هذا المجال هو إيجاد القوانين والضوابط والإجراءات التي تؤمن سوقاً حرة لا تسيطر عليها قلة، بل يكون المؤثر الأهم والأكبر فيها هو مجموع أصوات المواطنين من خلال قراراتهم الحرة الاستهلاكية، أو الإنتاجية، وفيما يلي أهم هذه المتطلبات: 1 الحد من الاحتكار، وذلك بمنع التجمعات الاحتكارية الاستهلاكية والإنتاجية التي تؤثر في حركة الأسعار. 2 الحد من إعطاء فرد أو مجموعة من الأفراد امتيازات خاصة، تجعلهم قادرين على التمتع بمراكز احتكارية في السوق. 3 أن تكون المعلومات والبيانات الخاصة بالسوق والعقود والمشاريع متاحة لجميع الأفراد المتعاملين في السوق من دون تمييز أو محاباة. 4 الحد من الفساد الإداري الحكومي أو الخاص بجميع أنواعه وأشكاله. 5 سن القوانين الكفيلة بفض النزاعات التجارية بعدل وسرعة تحفظ مصالح جميع الأطراف المتنازعة من خلال محاكم تجارية يتاح فيها لكل طرف من خلال ذاته أو محاميه الدفاع عن حقوقه. 6 تأمين القوة الكافية والفاعلة لتنفيذ الأحكام التي تصدرها المحاكم التجارية من دون إبطاء أو تلاعب. 7 تأمين نظام رعاية اجتماعية، يضمن لكل مواطن عاجز عن العمل أو الكسب، أما لأسباب البطالة أو المرض أو الإعاقة أو السن أو الكوارث، أو غير ذلك من الأسباب الخارجة عن إرادته وقدرته، الحد الأدنى من الرعاية الصحية والسكنية والمعيشية والتعليمية وغيرها من ضروريات الحياة الأساسية. 8 إيجاد نظام ضريبي يكون أداة لتحقيق هدفين، الأول: إدارة الحركة الاقتصادية في مراحل الانكماش والانتعاش. ثانياً: تمويل جزء من موازنة الدولة، خصوصاً تلك المتعلقة بنظام الرعاية الاجتماعية ليؤمن حداً مقبولاً من التكافل الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء، ولكي يكون النظام الضريبي مقبولاً من الجميع فلا بد من أن يكون مطبقاً على الجميع. * رئيس المركز الاستشاري للاستثمار والتمويل.