سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
المفكر الإسلامي الشيخ زين العابدين الركابي : المشاريع الإسلامية تشتكي من الهيمنة الشخصية ... وأكثر من يجلس في المقاعد الأمامية يعانون غياباً في الوعي !
أمتنا الإسلامية تعيش أزمة هوية... وتعدد المشارب والاتجاهات يجعل الكل يدلي بدلوه, سواء أكان ذا علم أو مجرد مجتهد أو حتى لو كان لا يفقه شيئاً! لذا وجب علينا الحرص على استيفاء المعلومة والرأي من ذوي الشأن والبصيرة... واليوم نحن في صحبة الشيخ زين العابدين الركابي المفكر الإسلامي السعودي المعروف، نبحر وإياه في عباب الشأن الإسلامي، نقف عند بعض المتشابهات ونعلق على بعض التجاوزات في حوار حضاري سلفي معاصر, يحمل في طياته دعوة مفتوحة للإطلال من نوافذ عدة على فكرنا وتراثنا الإسلامي لنستلهم من خلاله كل الدرر... نحاور شيخنا في العمل الإسلامي وابعاده, وفي رؤيته للإسلام الآن، وفي مؤسسات الدعوة والفتوى في امتنا، والتحديات التي تنتظرنا، والحركات الإسلامية وقادتها ومناهجها... وأشياء أخرى تشغل الرأي العام. ألا تشعر أن أصحاب العمل الإسلامي يعرفون أعداءهم أكثر من معرفتهم لنفوسهم وواقعهم؟ - ما الأصحاب؟ وما العمل الإسلامي؟ هذه مفردات تتطلب شرحاً وضبطاً... مثلاً:"العمل الإسلامي"مفهوم شامل ينتظم كل عمل صالح النية، صالح الصيغة، صالح الأداء، سواء قام بهذا العمل فرد أو مجموعة أو دولة. بيد أن الملاحظة صحيحة من الناحية العامة، فهناك من يهتم بالأعداء وما يفعلون أكثر مما يهتم بالذات وبما تفعل... وهذا خطأ جسيم من الناحيتين: المنهجية والعملية. أولاً: يقرر المنهج أن الاهتمام الأول يتعين أن يتركز على الذات، لا على الغير أو الآخر:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"... عليكم أنفسكم، هذه هي المهمة الأولى والدائمة. ولذا فإن الترتيب المنهجي للأسبقيات لا يسمح - قط - بالتنكيس: لا يسمح بأن تحل وظيفة عليكم أعداءكم محل وظيفة عليكم أنفسكم. وعليكم أنفسكم تفيد التعرف على الذات"على إيجابياتها وسلبياتها، وعلى العلم بالمنهج الذي يرتقي بها عقلاً ومعرفة وفعلاً، وعلى كيفيات تحصين الذات ضد الثغرات النفسية والفكرية والاجتماعية والسياسية والإعلامية التي يتسلل منها كيد الأعداء. والمعنى الأخير مؤيد بقاعدة أخرى في السياق والمجال والمنهج هي آية:"وأن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما تعملون محيط"... فالدلالة السافرة في هذا النص هي: أن البناء الذاتي هو الأهم"فإذا صح البناء الذاتي وقوي وشمخ ورسخ، فإن كيد الأعداء وسائر العوامل الخارجية لا تؤثر، أو يكون تأثيرها من الضعف والهزال بحيث لا ينال من البناء الصحيح المتين. والمعاني الآنفة مرفودة بمنهج تفسر الأحداث. فمنهج القرآن في تفسير الأحداث يبدأ بنقد الذات المسلمة قبل نقد العوامل الخارجية..."أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"... فلم يَرُد القرآن ما وقع في أحد إلى كيد المشركين، ولا إلى مهارة قائدهم العسكري يومئذ، خالد بن الوليد، بل رده إلى ما تلبست به الذات المسلمة من أخطاء نفسية، ومخالفات منهجية. ثانياً: الخطأ الجسيم في الجانب العملي هو أن المسلمين يتركون ما يقدرون عليه، ويشغلون أنفسهم بما لا يقدرون عليه... والمقدور عليه هو الذات"تفقداً ونقداً وتعهداً وإصلاحاً... أما غير المقدور عليه فهو تصرفات الأعداء، فالمسلمون لا يستطيعون تغيير نية العدو ولا إرادته، ولا فطمه عن التربص والتحرش والعدوان. وليس عقلاً عملياً ترك المستطاع للانشغال بالمستحيل. عاهات فكرية عندنا بعض المشكلات في واقعنا المعاصر ليس تعقيدها ذاتياً بقدر ما نشارك من حيث نريد أو لا نريد في ترسيم هذا التعقيد، ما رأيكم؟ صحيح جداً.. فالطريقة غير العلمية في تناول المشكلات تزيدها تعقيداً وإشكالاً، والطريقة غير العلمية هي الاعتماد على الخواطر والانطباعات والتصورات المطلقة والأحكام الجاهزة والمبالغة والتهويل والميل إلى القنوط عند البعض، والجنوح إلى الخيال الوهمي عند آخرين... هذه كلها عاهات فكرية تضيف إلى أصل المشكلة، الذي يزن ثلاثة كيلوغرامات مثلاًً، أطناناً من الوساوس والإسقاطات والإقحامات، فيزداد الطين طيناً، لا بلة. أما الطريقة العلمية للتعامل مع المشكلات فهي البدء - الذي لا يسبقه بدء - بتحديد المشكلة تحديداً واضحاً دقيقاً لا إبهام فيه. وهذا جهد علمي ضروري، فقد لا تكون هناك مشكلة أصلاً. ثم بعد التحديد، ترصد المشكلة - كظاهرة يمكن التدليل على وجودها بنظم أجزائها في خيط مشهود وملموس، ثم تأتي خطوة التحليل المنهجي للظاهرة أو المشكلة. وينتظم التحليل الأسباب والآثار - على سبيل المثال - ثم ينتهي التحليل إلى الاستنتاج الموثق بالبراهين، استنتاجاً مصحوباً بالحلول والبدائل. إن أي خلل في هذه الطريقة يؤدي ليس إلى تعذر العلاج، بل إلى مزيد من التعقيد والإعضال. وكم وددنا ألا يتعرض أناس لتناول المشكلات، تفادياً لمزيد من الإعضالات، ولئلا يتحقق المثل السائر"جاء ليطب العين فأعماها". الرؤية الإقليمية للإسلام سبب في صراع المسلمين مع بعضهم البعض، ما تعليقكم؟ - الرباط الجامع بين المسلمين هو إخوة الإسلام، مهما تباعدت بلدانهم، واختلفت أقاليمهم، فإن قيم الإسلام الجامعة هي - بحكم مصدرها - فوق وطنية وفوق إقليمية. ويتعين الاعتراف بأن هناك فروقاً في الأعراف بين أوطان المسلمين أو أقاليمهم، وهي أعراف لها اعتبارها الشرعي والفقهي في الفتيا والسياسة الشرعية، بمعنى أن منهج الإسلام يقر هذه الأعراف جميعاً ما دامت لا تصطدم بمعنى من معاني التوحيد، ولا بحكم قطعي من أحكام الشريعة، ولا بأصل من أصول الأخلاق. ولذا فإن تباين الأعراف المعتبرة لا يجوز أن يكون سبباً في شقاقات المسلمين وصراعاتهم. وإنما يحصل الشقاق أو الصراع من الأهواء السياسية المدمرة، ومن التعصبات المذهبية الحالقة لقيم الأخوة، ومن النعرات الإقليمية التي تبعث حمية الجاهلية وتقدمها على أخوة الإيمان. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نحن نجيد أحكام الرفض والمنع للأشياء من دون أن نوجد البديل؟ - هذا الاتجاه أو السلوك منكوس معكوس، يقرأ الحروف العربية من ناحية الشمال حولاً في العين، وخطلاً في التفكير، ذلك أنه يلزم البدء في إيجاد البديل قبل الرفض والمنع. وإلا أوقعوا الأمة في فتنة فكرية، وحرج واقعي، ولا سيما إذا كان الرفض والمنع على مستوى الأمة، لا على مستوى فردي. نقول هذا وبين أيدينا قاعدة كبرى علمية منهجية موضوعية عملية وهي قاعدة"تقديم الأمر بالمعروف"أي إعطاء الأسبقية للأمر بالمعروف. ومن يتدبر القرآن، ويستقرئ السنة يعلم - بيقين - أن الأمر بالمعروف قد تقدم النهي عن المنكر تقدماً مطرداً تاماً بلا استثناء ولو مرة واحدة. والله الذي أنزل القرآن وفصله بعلمه"ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم"لم يقدم الأمر بالمعروف - بإطلاق ? عبثاً، تعالى عن ذلك، وإنما قدمه وبمنهج بين لحكمة بالغة. ومن أظهر وأعظم وجوه هذه الحكمة تعويد تفكير المسلم على النزعة الإيجابية البناءة، بمعنى أن تنشط ذاكرته في التفكير الدائم الخلاق في فنون المعروف وصيغه قبل أن تنشط في مسائل المنكر، هذه واحدة. والثانية، أن كثرة المعروف وانتشاره يقللان المنكر تلقائياً ويحاصرانه:"إن الحسنات يذهبن السيئات"... والثالثة، أن من طبيعة سلوك المؤمنين التركيز على فعل الخير والمعروف..."وافعلوا الخير لعلكم تفلحون"،"واستبقوا الخيرات"،"وأتمروا بينكم بمعروف"... والرابعة، أن إنكار المنكر قبل تقديم المعروف وبذله يوقع الناس في حيرة شديدة، مثلاً: إذا نُهي الناس أو منعوا من الترويح عن أنفسهم بإطلاق، وقعوا بين مضيقين"مضيق الاستجابة لنوازعهم الفطرية وتلبيتها بعيداً عن هدي الإسلام، ومن هنا فإن سد أبواب الترويح سداً مطلقاً يفتح أوسع الأبواب لمناكر أضخم، ومضيق كبت نوازع الناس الفطرية التي فطرهم الله عليها، وهذا خيار يصادر الفطرة من جهة، ويتجاهل الواقع من جهة أخرى. إننا نقول بوضوح إن البدء بالرفض والمنع يوقع المسلمين في الحيرة والاضطراب والحرج. ومما لا شك فيه أن هذا اتجاه مناقض لمنهج الإسلام. وهذه كلمات - لابن تيمية - مفعمة بالفقه والذكاء والواقعية في هذا المجال. يقول:"النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيراً إلا لمثله أو إلى خير منه، فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغني عنه. كما يؤمر بعبادة الله سبحانه وينهى عن عبادة ما سواه. والنفوس خلقت لتعمل لا لتترك، وإنما الترك مقصوده لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح، لم يترك العمل السيئ أو الناقص". الآن حصحص الحق ورأينا أن تقديم البدائل وتوفيرها، مقدم على الرفض والمنع. المطالب المثالية للدعاة تعطل نمو المجتمعات، ما رأيك؟ - نعم. حين يقدم التاريخ الإسلامي كله على أنه"سيرة ملائمة"تمتلئ النفوس بالإحباط حين تقارن ذلك بالواقع الذي يصور بأنه نتاج مركوم من أفعال شياطين الإنس. وتتعذر التنمية، ويصعب النهوض في ظل الشعور البئيس بالإحباط، فأنى لشياطين الإنس أن يبلغوا مبلغ الملائكة المطهرين؟! ومن مفاسد"المثالية الوهمية"الزعم بأن الذين يدعون إلى المثالية قوم كاملون!! ومن هذه المفاسد الدق المتتابع على أن الأهداف تحقق بالقفز واختصار المراحل والاستخفاف بالواقع المادي القائم، ولا يتورط في هذه المفاسد إلا جهول بمنهج الإسلام القائم على التدرج والتجزئة لا على القفز والطفرة. ومن النطق بالشهادة أن نقول إن دعاة من الدعاة - وليس كلهم - هم الذين يميلون بالناس كل الميل إلى المثالية الحالمة، فتكون فتنة. الفقه الإسلامي المعاصر يؤكد البعض أن التعصب والتقليد هما جناحا الفقه الإسلامي المعاصر، هل تتفق معهم؟ باستثناء ومضات نادرة متقطعة يصح القول إن الغالب على المشتغلين بالفقه الإسلامي هو التعصب والتقليد وهما آفتان متداخلتان متناسلتان. فالتعصب للمذهب ينجب التقليد بداهة، والتقليد يلد التعصب. ويمكن إضافة اتجاه ثالث هو الاتجاه التلفيقي، ولعلنا نعرض له في قادم السطور. والتعصب والتقليد نقيضان لمنهج الإسلام الذي ندب العلماء للتجديد والاجتهاد، وحفزهم على ذلك بالمثوبة على الخطأ في الاجتهاد. بل إن التعصب والتقليد مخالفان لمناهج الأئمة الذين يقلدون ويتعصب لهم. فالأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل قد نهوا عن تقليدهم لعلمهم بأن الإسلام دين نظر وتدبر واجتهاد وتجويد، لا دين تقليد. والقضية أكبر وأخطر من أن تنحصر في دائرتها العلمية، ذلك أن التعصب والتقليد قد ضيقا على الأمة مساحة الحركة والركض، وفوتا عليها مصالح حيوية أمس واليوم وربما غداً. كثير من الدعاة يتضخم لديهم شعور بالوصاية على المجتمع، إلى ماذا تعزو ذلك؟ - من أسباب ذلك الخلط الشديد المعيب بين النصح والوصاية. فالنصح مفهوم كريم تضافرت عليه الأدلة من الكتاب والسنة، ولكن النصح مشروط بالدلالة اللطيفة المهذبة على الحق والخير. في حين أن مفهوم الوصاية يعني - أو من مفاهيمه - أن الموصى عليه سفيه أو قاصر أو غير راشد أو فاقد الأهلية. وهذه كلها مضامين تجرح ولاتداوي، وتذل ولا تعز. والوصاية - بهذا المعنى جهالة لا تليق بداعية..."وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين". والوصاية - بمعناها هذا - تعني التجبر والسيطرة. وهذا منزع أو سلوك محرم في منهج الإسلام. ولذلك برأ الله رسوله من التجبر"وما أنت عليهم بجبار"... ومن السيطرة"فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر". انفصال العلم الشرعي عن الواقع المعيشي. ألا يحرمنا من خير كثير؟ - المفترض أن يكون العلم الشرعي برنامجاً لحياة المسلم اليومية. فالمسلم منذ طلوع الفجر يبدأ يومه بالصلاة، ويعقد النية على أن يعمل صالحاً - على مدى يومه - لنفسه وأسرته ومجتمعه ودولته، وعالمه، وبهذه النية يتقرب إلى الله زلفى - مهما كان نوع عمله. وهذه القربى من صميم العلم الشرعي. وقد تنفصل العلوم الشرعية عن الواقع المعيشي ليس لعدم الرغبة فيها، ولا لأن هناك شرطة تمنع المسلم من الوضوء والإخلاص والجد في العمل الصالح، وإنما لسوء عرض العلوم الشرعية جفافاً أو جفاء أو مثالية تصور للناس أن تطبيق العلوم الشرعية فوق طاقتهم، أو أنها تحرمهم من حظوظ الدنيا ومباهجها وجمالاتها. تخلف المسلمين هل الديموقراطية عولمة لمبدأ الشورى؟ - لا، فالعولمة - في جانب من جوانبها - تعميم نموذج التفكير الغربي وطريقة الحياة الغربية على العالم كله، بما فيه العالم الإسلامي. ولا نحسب أن أساطين العولمة معنيون بنشر مبدأ الشورى الإسلامي في العالم. بيد أنه يتوجب على المسلمين - النخب منهم بوجه خاص- أن يستثمروا مناخ العولمة للتعريف بتشريع الشورى في الإسلام، فهو تشريع ينتظم:- أ- حرية الرأي، فلا تتصور شورى من دون رأي حر. وقد أمر الله النبي المعصوم نفسه بأن يتيح للناس حرية إبداء الرأي في الأمور الاجتهادية، إذ أمره بأن يشاورهم في الأمر..."وشاورهم في الأمر"... ومن الناحية التطبيقية، أصبحت الآراء الحرة، قرآناً يتلى ويتعبد به، مثال ذلك:- - رأي عمر بن الخطاب الذي أشار فيه إلى أن يتخذ النبي مقام إبراهيم مصلى..."واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"... وقد كان، فهل هناك تمجيد لحرية الرأي أعظم من أن تتحول إلى مصدر تشريع؟ - رأي خولة بنت ثعلبة التي لم تكتف بإبداء الرأي للنبي، بل جادلته في أمر أسرتها جدالاً شديداً، وقد نزل الوحي مؤيداً حرية رأيها، وهي حرية رأي انبنى عليها تشريع محكم في صدر سورة المجادلة. ب- ومن عزائم تشريع الشورى: مناهضة الاستبداد الذي من طبائعه احتكار الصواب، والاستئثار والتفرد بالرأي تألهاً وتجبراً..."ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"..."وخاب كل جبار عنيد". ج- ربط الشورى بالدين، وبأخلاقياته في أمانة المعرفة والعلم والرأي والنصح حتى لا يتحول هذا التشريع إلى سوق للانتهازية السياسية، والفساد والإفساد باسم الحرية والمصلحة العامة. المشاريع الطويلة الأمد تصطدم بالمتغيرات اللاحقة؟ - المشاريع الطويلة الأمد: مطلوبة بإلحاح في العالم الإسلامي. فمن علل تخلف المسلمين أنهم لا يكترثون بالتخطيط الطويل المدى. بل إن كثيراً منهم يعمل بعقلية الإسعافات الأولية أو اليومية. ونحن نعلم أن نهضات أوروبا واليابان والولايات المتحدة لم تتحقق إلا من خلال مشاريع طويلة المدى: تعليمية، واقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وإدارية. لا خطأ - من ثم - في فكرة المشاريع الطويلة الأمد. ولكن الخطأ يكتنف مشاريع ادعت هذه الدعوى العريضة في حين أنها انبنت - في واقع الأمر - على الأوهام والتصورات الجاهلة بوقائع الحاضر ومرئيات المستقبل، وبأسس التخطيط العلمي السليم. تشتكي المشاريع الإسلامية من الهيمنة الشخصية! - هذا صحيح ومحزن. أكثر من يجلس في المقاعد الأمامية يعانون غياباً في الوعي، ما تعليقكم؟ - الأكثر والأقل يحتاج إلى إحصاء. لكن الظاهرة موجودة. العلمانية ونحن العلمانية ليس كلها شر وأصحابها إخوان لنا، ما تعليقكم؟ ما العلمانية أولاً؟ ليس للعلمانية مدلول واحد. وإذا كان للحرية أكثر من مئتي تعريف - كما تقول إيزيا برلين - فإن تعريفات العلمانية أكثر من ذلك. فهناك من يعرفها أو يفسرها - ويعتنقها بحسبانها إلحاداً تاماً يقطع صلة الإنسان بالله، وبكل شيء صادر عن الله - جل ثناؤه - وهناك من يفهمها بأنها علمنة للوسائل والأساليب والآليات، بمعنى أن تكون وسائل المجتمع والدولة علمية... وهذا التصور مبني على مفهوم أن العلمانية مشتقة من العلم!!. ومنهم من يتصور أنها هي الحداثة عينها، وهكذا. ونحن نقول إن المفهوم الأوفر حظاً بالتوافق في مسألة العلمانية هو فصل الدولة عن الدين في التشريع والتعليم والثقافة والقضاء، وكل شيء للدولة فيه قرار وسياسة وسلطان، وأوضح مثال في ذلك هو: الجمهورية الفرنسية. هل هناك علمانيون؟ نعم، كل بحسب فهمه للعلمانية وتطبيقه لها، في فكره وسلوكه. ولست من أنصار تصنيف الناس وفق هذه المصطلحات والمفردات. أولاً: لأن المنهج حدد الأوصاف والأسماء التي يقوّم الناس ويحكم عليهم بموجبها، ولا نقدم بين يدي الله ورسوله، وما ينبعي لنا ولا نستطيع. ثانيًا: لأننا في زمن فتنة فكرية عامة، حيث ازدحم الإعلام والتعليم والمكتبات والثقافات المتنوعة بمصطلحات ومفاهيم يحملها الناس وينتصرون لها وهم لا يدركون دلالاتها الحقيقية. مثلاً يكتب بعض الناس في الصحف أو في حقل الثقافة الإسلامية فيقول - في معرض التنويه بالانبعاث الإسلامي - خرج المارد الإسلامي من القمقم. يكتب هذا من دون تثبت من المصطلح الذي يردده، ولو علم بمدلوله لتاب من استعماله. فالمارد في القرآن هو الشيطان، ولا يمكن أن يكون الشيطان إسلامياً، لأن من خصائص الشيطان التمرد على الله - عز وجل- والتمرد على الله، والاستسلام لله، نقيضان لا يجتمعان. ثم لنفترض أن إنساناً اعتنق العلمانية في مفهومها القاضي بفصل الدين عن الدولة، فما الموقف تجاهه والحالة هذه؟ حتى في هذه الحالة، لا ينبغي التسرع بالحكم حتى يناقش بهدوء وطول نفس، وطول وقت، وتنويع في الحجج والبراهين، ورغبة صادقة في الإقناع، ونأي تام عن الإهاجة والاستفزاز. ففي زمن الفتن الفكرية التي تصبّح الناس وتمسيهم يُطلب من ذلك كله ما لا يطلب في سواها، وكأيٍّ من إنسان حر التفكير والضمير آب إلى الصواب بعد ما تبين له الحق بقناعة ذاتية جديدة. توحيد الفتوى توريط للمسلمين ! ... ويجب ألَّا نصادر حرية عالم مقتدر بحجة "الاجتهاد الجماعي" هناك نوعان من المرجعية: أ- المرجعية المصدرية وهي للكتاب والسنة من دون جدال..."فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول". ب- المرجعية العلمية البشرية، أي أهل العلم والفقه الذين يعلمون الكتاب والسنة ويفقهونهما، وهذه مرجعية تبعية مقيدة، بمعنى أنها تستمد مشروعيتها وأهليتها بمقدار قربها من الكتاب والسنة. وهذه قضية ينبغي أن يستفيض الحديث التأصيلي حولها، لماذا؟ لئلا يتعبد المسلمون بآراء الرجال حتى وإن ندّوا عن هدي الكتاب والسنة، ولكي لا ينطبق على المسلمين قول الله تعالى..."اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله"... يجب أن توضح الفروق الهائلة بين النص المعصوم والرأي غير المعصوم في فهمه. في الوقت نفسه يجب أن يتضمن التوضيح إبراز المكانة العالية للعلماء في دين الإسلام. فمن دون العلماء يجهل الدين، ويسود العمى..."أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب". وفي الأفق دعوات تبتغي إيجاد مرجعية واحدة للمسلمين كافة، ودعوات تنزع إلى توحيد الفتيا. وليس ينبغي إقرار ذلك بإطلاق - على وجاهته الظاهرية الجذابة - بل لا بد من الضبط والتحرير والتفصيل. ومهما طال الحديث في هذا المجال، فإن من صميمه:- - أن حرية التجديد والاجتهاد يجب أن تظل مفتوحة أبداً، وبمساحاتها الواسعة، وأن تظل مفتوحة الأبواب والنوافذ للعلماء الأفراد، كما هي للعلماء الجماعة. فليس من حق أحد أن يصادر حرية عالم مقتدر ذي أهلية بحجة جماعية الاجتهاد العلمي أو الفقهي، فقد يكون لدى العالم الفرد من قوة الحجة، وملكة الفقه، وسداد النظر ما يجعل علمه يرجح رأياً جماعياً. فالأمة الإسلامية أمة الدليل. وقد يكتشف الدليل عالم فرد في حين يغيب هذا الدليل عن العلماء الجماعة، أو أن هذا العالم اكتشف في الدليل المتفق على صحته فقهاً لم يتوصل إليه أولئك، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء. ولا يتألى أحد على الله بحجب فضله عن الناس، ولا يستطيع أحد ذلك ولو أراد. وفي تراثنا العلمي شواهد ونفائس لا تحصى من هذه الحرية العلمية الرطيبة الخصيبة الباسلة. مثال ذلك، أن جماهير العلماء ترى أن يمتنع المأموم عن قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية وأن يكتفي بالإنصات للإمام وهو يقرأ جهراً، لكن من العلماء من تمتع بحرية رأيه واجتهاده فخالف جماهير العلماء وأوجب على المأموم قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية والسرية. ومثل آخر، لقد ذهب جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة إلى وقوع الطلاق ثلاثاً بكلمة واحدة، لكن ابن تيمية - مثلاً - خالف الجمهور وقال إن لفظ الطلاق بثلاث لا يعدو أن يكون طلقة واحدة. - إن القيود كثرت على المسلمين - في كل مجال تقريباً - والمطلوب هو تقليل هذه القيود والتخفيف منها لا زيادتها وتغليظها. - إن نموذج الفاتيكان في المرجعية لا يجوز أن يقلد في العالم الإسلامي، فمرجعية البابا أو الفاتيكان تختلف عن مرجعية المسلمين في المصدر والمنهج والإلزام رأي الباب ملزم بالضرورة الدينية أو العقيدية. ثم ما معنى توحيد الفتوى؟ إن هذا كلام أقرب إلى الشعار منه إلى المنهج العلمي والعملي. أ- قلنا إن العالم ينبغي أن يتمتع بالحرية الكاملة في النظر والاجتهاد والترجيح. ووفق هذه الحرية يفتي، وإن خالف آخرين. فالشروط - ها هنا ? علمية، لا كهنوتية بشرط أن يكون أهلاً للفتيا. ب- لتبسط الخيارات العلمية والفقهية أمام المسلمين، ولهم أن يختاروا ما يريدون، وما يناسبهم. ج- قرر الفقهاء الفحول أن للأعراف السائدة أثرها في الفتوى. والمسلمون اليوم - دولاً وجاليات - يعيشون في أكثر من مئة مجتمع، وهذه المجتمعات تختلف أعرافها اختلافاً شديداً، ومن هنا ينبغي أن تتنوع الفتيا بتنوع الأعراف، وهذه لازمة علمية لا تسمح بتوحيد الفتوى بالمفهوم الصارم الحديدي. فهذا المفهوم يندرج في توريط الذات في مضيق لزوم ما لا يلزم. والصيغة العلمية والعملية المناسبة - للمرجعية والفتوى - هي الجمع السوي بين الحرية العلمية الواسعة للعلماء الأفراد وبين الاجتهاد الجماعي النافع الذي لا يجوز ? قط - أن يكون قيداً على حرية المبادأة والمبادرة والتجديد والإبداع العلمي والفقهي والفكري.