حقول الشعر لا تنبت عطاءها إلا لمن فاض له نهر الإبداع، فيسير فيها، يستظل بأشجار عواطفها، ويقطف من ثمار أفكارها، وتسترح نفسه بما فيها من أشكال وألوان ووعود بمواسم الجني. وتبسط حقول الشعر في ديوان"الغزالة تشرب صورتها"للشاعر علي الحازمي، وهو الديوان الثالث، أصدره بعد ديوانيه: بوابة الجسد وخسران. يشتمل الديوان على ثلاثة أقسام، القسم الأول بعنوان جمر يغفو...امرأة تهب ويضم ست قصائد، والقسم الثاني بعنوان حب مريض ويضم خمس قصائد، والقسم الثالث بعنوان فضة تتعثر ويضم أربع قصائد. تمتد التجربة في"الغزالة تشرب صورتها"على مدى 15 قصيدة، تتداولها ثلاثة بحور هي المتدارك والمتقارب والكامل، تتداخل حيناً وتنفصل حيناً آخر، وقد كتبت القصائد بين عامي 2000 و 2003. والشاعر علي الحازمي يدخل قارئه إلى عالمه الشعري من أول وهلة، فعنوان الديوان يثير كثيراً من التساؤلات، والرغبة في معرفة مدلوله، خصوصاً أن اللوحة التي وضعت على غلاف الديوان لها إيحاءاتها. فإذا دخلنا إلى صفحة الإهداء وجدنا الشعر ينطق في الكلمات النثرية، حيث يهدي ديوانه إلى أمه قائلاً: إلى من نذرت سعف عمرها لجهاتي / حتى تطال فيَّ جذع روحها الباسق / ونتساءل لماذا ذكر السعف ولم يذكر القمر، هل كان في حاجة إلى ظلها أكثر من جناحها؟ نطوي ورقة الإهداء فيصافحنا عنوان القسم الأول من الديوان: جمر يغفو... امرأة تهب عن كلمات جمر، امرأة، تهب لا يحدث قلق الرغبة في الاكتشاف لدى القارئ المعتاد على قراءة الشعر، ولكن الفعل يغفو جعل الجملة لافتة لانتباه القارئ، فالجمر لا يخمد لا ينطفئ، لكنه يغفو، ويغفو في اللحظة التي تهب فيها المرأة، هذه المقابلة بين الجمر الغافي والمرأة التي تهب أحدثت التوتر الشعري، فلم يعد استقبال القارئ استقبالاً مسطحاً، ثم أن الإغفاءة يسبقها استيقاظ ويعقبها استيقاظ، فهل سيستيقظ هذا الجمر الذي يغفو؟ وكيف ستكون الحال حين يهب كما هبت المرأة؟ وهل سيكون هبوبها مستمراً حين يشتعل الجمر مرة أخرى، أو ستكون قد عفت؟ هنا تبدأ مشاركة المتلقي، حين تتولد لديه الرغبة في اكتشاف الوجهة التي سيسير الشاعر لوليها عبر تجربته. ثم نطوي الصفحة فنفاجأ بعنوان القصيدة الأولى: تبذرنا شمس آب آب؟؟!... ما صلة هذا الشاعر القادم من جنوب السعودية حيث تستخدم الشهور الهجرية بشهر آب الذي يستخدمه أهل الشام؟! إنها ليست مجرد أسماء للشهور، فلكل شهر دلالة زمانية، فهذا يجئ في الصيف، وذاك في الربيع وذلك في الخريف أو الشتاء، ولكل شهر دلالة بيئية، ففي هذا تعزيز الأمطار، وفي ذاك يشتد البرد أو الحر، وفي ذلك يبدأ موسم الزواج حيث يعتدل الطقس ولكل شهر دلالة نفسية لدى كل منا، ففي هذا الشهر ولدت، وفي ذاك كانت إجازة المدارس تبدأ، وفي ذلك كانت بداية حبي لفلانة. وهكذا فإن أسماء الشهور ليست مجرد أسماء، لكنها إشارة إلى مدلولات زمانية وبيئية ونفسية ذات أثر عميق في حياة الإنسان لمعايشته إياها خلال سنوات عمره، ولها ذكريات في نفسه تثير عواطف وأفكاراً تحرك مشاعره حين يستدعيها من الذاكرة ليجدد معايشتها. فأين علي الحازمي من شهر آب؟ هل تأثر نفسياً بشاعر تحدث فيها عن شهر آب؟ أم عاش تجربة في بيروت ? حيث طبع ديوانه فأراد إثباتها في أولى قصائده؟ أم تراه سمع عن الطقس في شهر آب ففضله على شهر صفر الهجري؟ هكذا يثور كثير من الأسئلة لدى القارئ، بدءاً بعنوان الديوان، مروراً بإهدائه، وبعنوان قسمه الأول، وصولاً إلى عنوان أولى قصائده، وهذه التساؤلات تستفز رغبة القارئ في اكتشاف تجربة الشاعر، وهذا نجاح يحتسب للشاعر، فقد هدته موهبته إلى اقتناص مشاركة القارئ قبل أن يبدأ ? حتى ? في قراءة أول سطر شعري في الديوان. لفت انتباهي عدد من الظواهر الفنية في ديوان"الغزالة تشرب صورتها"للشاعر على الحازمي، منها: بناء القصيدة: وجدت الشاعر استخدم ثلاثة أساليب للبناء الهيكلي في قصائده: أولها: يتمثل في قصيدة عائشة ص31، فقد قسم الشاعر قصيدته إلى 15 مقطعاً، منها سبعة مقاطع قصيرة، كل منها جاء في سطر واحد كالآتي: كبرنا مع الحب يا عائشة/تعبنا كما الحب يا عائشة/ نعيش مع الحب يا عائشة- يغربنا الحب يا عائشة/ لنا الحلم والوقت يا عائشة/ سنمضي إلى الروح يا عائشة. وكتب الشاعر ما بين كل مقطع من هذه المقاطع وما يعقبه مقطعاً يتكون من عدد من الأسطر الشعرية من سبعة اسطر في بعضها إلى 14 سطراً في البعض الآخر، وختم المقاطع الكبيرة بقافية موحدة على روي النون المنصوبة: فاتنه/كامنه/ ممكنه/آمنه/ آسنه/ مزمنه/ طاحنه/سنه. ثانيها: خمس قصائد في صفحات 11-12-21-39-61-71 تتكون كل قصيدة من عدد من المقاطع، وينتهي كل مقطع من مقاطع القصيدة الواحدة بقافية موحدة وروي واحد. وكأن الشاعر أراد بهذا الشكل أن يقول إن الدوائر تتعالى في تجربته، وان عليه البدء من جديد كلما وصل إلى نهاية المطاف في تجربة كل قصيدة من هذه القصائد. ثالثها: تسع قصائد جاءت مقاطعها حرة، وكأنه أراد أن يقول من خلال شكلها أن البدء من جديد سيجعلنا حتماً ننطلق في الحياة يوماً ما، من دون عودة إلى نقطة البداية مرة أخرى. * جزء من دراسة طويلة.