هل تنتهي الحكاية؟ الباحث سعد الدريهم الذي يسكن في الدلم بدا أنه كشف حقيقة "جن الخرج". ربما من وجهة نظره. هو سيروي عن الأصوات وعن تجسد الجن وتلبسهم الإنسان. وسيروي عن "معازف الجن" التي كتب عنها الهمذاني قبل أكثر من ألف عام. لكن، الحديث عن المجهول، طويل وطويل وطويل... لن تكفِ صفحات ثلاث في سد رغباتنا البحث عن الغيبيات. الاتصالات الهاتفية بدأت بعد أول حلقة نشرت عن"المثيله". مناطق المملكة الشاسعة وقراها مليئة بحكايات و"حواديت"الجدات وكبار السن عن الجن. والشبان يروون مغامراتهم مع الجن أيضاً. "المثيله"و"خفس دغرة"و"المشطب"، ليست القرى المهجورة الوحيدة، التي يمكن أن تسكنها المخلوقات المجهولة بالنسبة إلينا. وليست القرى الوحيدة التي يسود فيها الصمت ويغيب عنها الإنسان والوحوش البرية والحيوانات الضعيفة. لكن، فريق"الحياة"زاروا قريتين مهجورتين. باتوا في كل قرية ليلة كاملة. كتبوا عن الخوف والرعب في زواياها وألوانها. لم يسمعوا صوتاً أو يلحظوا حركة أو جسداً غريباً فيها. عالم الجن لا نراه... لكنه موجود! سيروي عنه الكبير والصغير، طالما أنه مجهول. وسيتصل كثيرون يؤكدون وجوده في منطقة هنا أو هناك. وكثيرون يخافون هذا العالم. لكن، ألا يمكن أن يكون الجن هو من يخاف الإنسان؟ هل يحيا كما نحيا: يأكل ويشرب ويتكلم وينام في الليل ويستيقظ في الصباح؟ وهل يشبه الجن في أميركا أو اسرائيل الجن الذي يسكن السعودية والدول العربية؟ رجل، يتصل بالصحيفة ويزعم انه يعرف إنساناً يكلم الجن، ويعرف أن هناك جناً أسلم بعد أن أقنعهم الإنسان نفسه الذي يسكن الخرج! يقول:"ستسمعونهم بأنفسكم... كل ما عليكم هو زيارته"! رجل آخر، يقول أن منطقته مليئة بهم، وأنه يراهم. تشعر بالملل من كل تلك الحكايات، لكن ذلك لا يمنعك من التفكير في المحاولة مرة أخرى في المستقبل، علك تجد الحقيقة. الساعة الآن السابعة صباحاً، في يوم الخميس الماضي. وصلنا إلى منزل سعد الدريهم. الزميل محمد الدخيني من قناة المجد، قادنا إلى منزله. الرجل أصر علينا أن نتناول الغداء معه، وحين اعتذرنا منه، مبررين بمكوثنا طيلة الليل في خفس دغرة، طلب تحديد موعد آخر، لأنه لن يقبل أي أعذار. لكن كل ذلك، لم يمنعه من تقديم وجبة الإفطار الشهية التي سدت جوعنا طوال الليل. كان كريماً جداً. ابتسم حين سمع قصتنا ومغامرتنا تلك، على رغم أنه أبدى امتعاضه، لأننا وصلنا الخرج ليلاً ولم نزره في مزرعته. وبينما كان ابنه يصب لنا الشاي والقهوة، ويقدم لنا العصير. كنا نتناوب على طرح الأسئلة عليه، على رغم أن النعاس بدأ في التسلل إلى بعضنا. الزميل الدخيني شاركنا في طرح الأسئلة، ربما كان يبحث مثلنا عن إجابات. بدأ الدريهم يحكي ويحكي ويحكي عن الجن وتاريخ المحافظة.... يروي سعد الدريهم قصة حقيقية، منذ نحو 50 عاماً:"كنت في الصف السادس الابتدائي. خرجت وزملائي خمسة او ستة منهم، ليلاً نصيد الجراد. وإلى جانب شجرة كبيرة، سمعنا وقع نزول أحدهم من فوق الشجرة. لم نره لكن صوت نزوله، كان واضحاً. ومن على شجرة أخرى سمعنا صوت أحدهم يقول: هبوا يا كلاب. لا زلت أحفظها". الدريهم وزملاؤه لم يثنهم شيء عن طعم الجراد اللذيذ، بالنسبة إليهم. انطلقوا إلى مكان آخر. لكن، أصوات الجن لحقتهم، حيث ذهبوا."بعد لحظات من ابتعادنا عن تلك الأشجار، سمعنا أصواتاً وجلبةً وصياحاً، ما دفعنا إلى العودة إلى منازلنا". يقول الدريهم:"من وجهة نظري، صوت الجن حقيقة، وإن صعب علينا إدراك أصوات هذه المخلوقات. لكن، ظهورهم والجلوس معهم أمر مستحيل، على رغم كل الحكايات والأساطير والخرافات التي تروى". ويستشهد الدريهم على حقيقة أصوات الجن، بما ذكر في التاريخ عن"المشطب"أو منطقة"معازف الجن"وغيرها من الأماكن الكثيرة. ينقل الشبان قصصاً كثيرة حين يزورون المناطق المهجورة، أو يخيمون في الوديان والبراري، ألا تحفظ بعضاً من هذه القصص؟ - لا تتجاوز قصص الشبان الخيال، وحب إبراز مغامراتهم. لكن معظم الثقاة من كبار السن الذين حفظوا قصصاً، ماتوا. ثم إن كلمة جن"سلمك الله"تحتاج إلى هدوء وتعب بعد تعب. كبار السن حين يخرجون في ساعات الصباح الاولى بحثاً عن الرزق... منهم من يجمع الأعلاف، أو بدوي يرعى، خصوصاً إذا كان وحيداً، يتراءى له ويسمع جلبة وأصواتاً، فيسمي ويذكر الله، حتى يشعر بالأمان. كما أن الجن حذر أيضاً مثل الإنسان، ولعله يخافه. ولم يثبت أن رآه أحد، حتى شرعاً، باستثناء بعض الروايات عن الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة. لكن، سماع أصواتهم أو عزفهم، مثبت في التاريخ، من دون اثبات رؤية أجسادهم أو وصف أشكالهم. وتذكر بعض الروايات أنهم يظهرون على شكل حيوان، ربما يتلبس في حيوانات! لكن تلبسه الإنسان أو دخوله جسده والكلام بلسانه، أمر مختلف عليه بين علماء الاسلام. وهناك حكايات كثيرة، عن أناس دخلوا تحت الأرض وحاكمهم الجن، وغيرها... لكن كل تلك القصص لا يقبلها عاقل، ولم تثبت شرعاً. هل تعرف قصص أناس تأذوا من الجن في المنطقة أو آخرين هجّرهم الجنُ من منازلهم؟ - بحسب ما علمنا في الشرع ومن روايات قديمة، أن من يؤذي الجن يؤذوه، ربما كان دفاعاً عن أنفسهم، ظناً منهم أن هذا البشري يود إيذاءهم. كأن تضربهم بشيء - من دون أن تعرف طبعاً، او تسكب عليهم ماءً حاراً من دون أن تسمي الله أو تذكره. وأذاهم عرف في المجتمع والإسلام بمس الجن، لكن ذلك لا يعني أنهم يظهرون ويتجسدون ويتلبسون الإنسان... أما إن كان الجن هجرواً أناساً في المنطقة من منازلهم، فهذا لم يحصل من قبل، ولم ترد حكاية عن أحد ترك منزله بسبب جني. والمعروف أن الجن يخافون الإنس ولا يسكنون مناطق هم فيها. وأذكر أن رجلاً كبيراً في السن اسمه محمد - تحتفظ"الحياة"باسمه كاملاً، كان يدخل مزرعتنا في الدلم ويخلع ملابسه كاملة ويسبح في"البركة"، ثم يخرج ويترك المزرعة. آبائي وأجدادي كانوا يعلمون أنه ممسوس من الجن، لذلك لم يؤذوه أو يوبخوه بسبب فعله، وهو كذلك لا يؤذيك طالما لم تقترب منه. "المثيله"و"خفس دغرة"، قريتان مهجروتان، زرناها بحثاً عن الجن ولم نجد شيئاً، ما تاريخ المنطقتين؟ -"المثيله"حي من أحياء قرية اليمامة، في وسط المزارع، تركها أهلها لأن بيوتها قديمة وآيلة إلى السقوط. ويسكن حولها بعض أصحاب المزارع هناك ممن بنى بيوتاً حديثة، أو لا تزال مبانيه القديمة متماسكة. أما"خفس دغرة"فلا يسكنها أحد، سوى قلة يعملون في مزارع قريبة من هناك ? كيلومترين تقريباً. بنيت قرية خفس دغرة، كسكن عمال في عهد الملك عبدالعزيز، وستزرع المناطق حول عيون الخفس حينما شعر الناس بقرب الحرب العالمية الثانية. وبما أن الحرب ستندلع، فمن الصعب استيراد القمح والمواد الغذائية. فأمر الملك وزير المال في ذلك الوقت - إذا لم تخن الذاكرة، عبدالله السليمان الذي استغل وجود عينين في خفس دغرة، وعمل على مشروع الخرج الزراعي. هذا المشروع أمن المملكة بالمواد الزراعية: قمح، وخضروات، وفواكه والبان. ومع نضوب الماء من العين، هجرت المنطقة، وتهدمت بيوتها، ولم يعد يزرها أحد إلا قلة من أهالي المزارع هناك. مزرعتك قريبة من منطقة"خفس دغرة"، وتزور المنطقة يومياً من الصباح إلى الثامنة مساءً، ألم تسمع صوتاً أو ترى جنياً مرة واحدة على الأقل؟ - يبتسم ويقول بلهجته العامية:"ما عاينت لا جن ولا غيرهم، حنا يا وليدي ناس نسمي الله ونذكره، ونطلب رزقه، والجن ما يجينا"! لم يشأ العم سعد رواية تلك القصص المثيرة عن الجن، والتي يحفظها كثيرون. ربما لأنه يعلم أن كلامه هنا للتوثيق ولكشف الحقيقة، لذلك قرر أن يبتعد عما لا يمكن توثيقه، على رغم إصرار الزميل الدخيني. على أي حال، هو لم ينف وجودهم، وأكد أن لهم أصواتاً، لكنه عد كل القصص والحكايات عن رؤية الجن ووصفهم"مجرد تهيؤات وخيال، ربما كان للجن انفسهم دور فيها، إذ يوسوسون للإنسان كما يوسوس الشيطان". وضحك العم سعد مؤيداً حال ما قاله المثل المصري المعروف:"اللي يخاف من العفريت... يطلعلو". الهمذاني كتب عن جن المنطقة قبل أكثر من ألف عام سُئلت عن "معازف الجن" وموقعها في محافظة الخرج؟ وبحسب كتاب"صفة جزيرة العرب"للهمذاني، ف"العزيف"صوت الجن. وذكر الهمذاني ما نصه:"معازف الجن من هذه الأرض رمل حوض ورمل المغسل والسميرية. ويقال في الكلبين المشرفين على الخرج وضلع الخريج من معازف الجن المعروفة، وجن البري. والبري من أمواه الضباب والبقار وعبقر وأكثر أرض ومربار وذي سمار، يضرب بجن ذي سحار ويقول الريضات وبعدار ملح والحج"انتهى. الهمذاني ولد في 19 صفر 280 ه أي منذ 1146 سنة. وأقول العزاف رمل لبني سعد هو"رمل المغسل"، والمغسل رمل واسع يمضي إلى الدام وإلى البياض. وسمي بالعزاف لأنهم يسمعون به عزيف الجن وهو صوتهم. وهذا الموقع في شرق بلدة الدلم. وروى لي من أثق به أن في هذا الموقع، منذ زمن قديم، لا يزال الصوت يُسمع ليلاً وفي آخر الليل، في هذا الموقع وغيره. وتعرف هذه المنطقة"معازف الجن"حالياً ب"المشطب"، وهي منطقة رملية شاسعة، لم يسكنها الآدميون. عبارة عن"خشم"جبلي يسمونه عزاف، وهو"معازف الجن"الذي ذكره الهمذاني في القرن الثالث الهجري. وروى لي بعض كبار السن أنهم إذا جلسوا في أسفل هذا"الخشم"يسمعون صوتاً وجلبة. وقال لي الشيخ عبدالرحمن الجاسر - رحمه الله، إنه يسمع في مزرعته صوتاً وجلبة في آخر الليل، في موقع آخر غير المشطب، ما يؤكد حقيقة صوت الجن أو عزيفهم. سعد الدريهم بين التاريخ والأسطورة ... بعيداً من "الجن" في شرق"زميقة"بين"خفس دغرة"و"الدلم"تقع قرية الخرج، التي سميت الخرج باسمها. وهناك قرية"الخضرمة"قرب اليمامة، وقرية"حجر اليمامة". وحجر اليمامة أولاً، فالخضرمة، فالخرج، فالمجازة حوطة بني تميم، مستوطنات قديمة جداً، سكنتها منذ زمن بعيد قبيلتا"طسم"و"جديس"- حضارات سادت ثم بادت. سكنت"طسم"حجر اليمامة في ذلك الوقت، وسكنت"جديس"الخرج. وكانت"طسم"أقوى من"جديس"، وحكم طسم على جديس"ألا تزف بنت إلى زوجها حتى تدخل على طسم"، وكانت النتيجة أن احتالت"جديس"على"طسم"، ودعوه إلى وليمة، بعد أن دسوا سيوفهم تحت الرمال. وقطعوا رأسه، قبل أن يأكل طعامه. من بقي من"طسم"استنجدوا بملك اليمن"التبع"، الذي زحف بجيشه، وكانت زرقاء اليمامة من"جديس". ولم يعر قومها اهتماماً لتنبيهها، إذ قالت لهم بعد أن وقفت فوق الجبل:"أرى قوماً كأنهم شجر يتحركون قادمين، وهناك من يخصف نعلته ويصلحها، على مسافة يوم وليلة أو يومين وليلتين". ولم يشعر قوم"جديس"سوى حين وصل التبع وجيشه وقضى عليهم. وهي بذلك حضارات سادت ثم بادت. وتعد مستوطنة الخرج، أقدم المناطق، ومبانيها تحت الأرض. نال عبدالعزيز سعود الغزي، شهادة الدكتوراه لبحث أثري في"الخضرمة"، بعد أن نقب فيها وأزال بعض طبقات التربة العليا، ووجد بعد تنقيبه وحفره، مباني يرجع تاريخها إلى ما قبل الاسلام، وحضارات أخرى... لكن المزارع غطت معظم هذه المنطقة. ولا بد من أن المياه وجذور الزرع قضت على آثارها. يذكر بعض أهل المنطقة أن مسجداً في الخرج، قبلته بيت المقدس، لا يزال موجوداً فيها، ولست متأكداً من موقعه تحديداً. وهناك مقبرة تاريخية، يرجع تاريخها الى ستة آلاف سنة. زرتها مرة واحدة، حين كنت صغيراً، واذكر أنها بدت كنحتٍ، أو قصر محاطٍ بسور من جهاته الأربع، وفيه حفرة كبيرة جداً. لا أعرف تاريخ بنائه تحديداً. ومما هو معروف، أن الصحابي ثمامة بن هذال الحنفي ملك الخرج، قطع قمح الخرج وحنطتها عن قريش، إلى أن أذن له الرسول ص بإرسال القمح إليهم. وتاريخ عيون الخريج قديم، إذ أوقفت في عهد الرسول على بعض بني حنيفة. وأرسل إليها معاوية بن أبي سفيان أربعة آلاف عامل زراعي من الشام، استصلحوا الأراضي الزراعية فيها. لكن العمال ضجروا من الصحراء وتركوها.