نحن في يوم الأربعاء الثاني من الشهر الجاري. قبل هذا التاريخ بعشرة أيام، بتنا في قرية"المثيله"ومزارع اليمامة، ننتظر أصوات الجن وبعضاً من حكاياتهم وقصصهم، كي نسردها. لكن، ما وصلنا إليه لم يتجاوز قصصاً سردها لنا السكان المجاورون لهذه المنطقة. حتى ما ذكره الزمخشري عن"الأعاريب":"من الجن جنس صورته على نصف صورة الإنسان واسمه شق، ويعرض للمسافر إذا كان وحده وربما أهلكه..."، لم نجده هناك. طوال ساعات الصباح الأولى، بعد منتصف الليل، في المثيله ومزارع اليمامة، كنا نتأكد بعد كل لحظة تمر، أن حكايات"جن الخرج"مجرد حكايات، مع كل الشائعات عن وجودهم هناك. وبعد عودتنا من هناك، الثلثاء ال23 من الشهر الفائت, التقينا الزميل المذيع في قناة المجد محمد الدخيني، وهو من أهل الخرج أصلاً، الدلم تحديداً. وروى لنا حكايات عن المنطقة المعروفة ب"المشطّب"أو"معازف الجن"- بحسب الهمذاني المولود في 280ه. الدخيني يؤمن بأن الجن حقيقة، مثل معظم المسلمين، لأنهم - الجن - مذكورون في القرآن الكريم، لكنه ليس متأكداً من القصص التي يحكيها الناس عن مغامراتهم مع الجن والعفاريت، ولعله لا يصدقها. اقترح الزميل الدخيني، أن نزور"المشطّب"، و"خفس دغرة"، وهما منطقتان في الخرج. وعرض علينا الجلوس مع الباحث والمؤرخ سعد الدريهم، الذي سيروي لنا تاريخ المنطقة، وكل ما يعرفه عن"جِنّها". "رجل، مر على المشطب، فوجد أناساً استقبلوه وذبحوا له وأطعموه. بات عندهم، في بيوتهم، ليفيق صباحاً على صحراء قاحلة، لا بيوت ولا ناس، قبل أن يفر فزعاً مرعوباً"، يروي الدخيني من دون أن يؤكد مدى صدقية القصة، ويضيف:"كثيرة هي الحكايات التي تشبه هذه، وتسمع عنها هناك، لكنك لا تستطيع الوثوق بها". لكن الزمخشري قال أيضاً في"ربيع الأبرار":"تقول الأعراب: ربما نزلنا بجمع كثير ورأينا خياماً وناساً ثم فقدناهم من ساعتنا يعتقدون بأنهم الجن وأن تلك خيامهم وقبابهم". هكذا حكايات تشوقك إلى زيارة المشطب، وخفس دغرة وغيرها... باحثاً عن الجن أو حقيقتهم، حتى لو عدت ب"خفي حنين"من اليمامة، فلا مانع من أن تجرب مرة أخرى. رحلة اليوم الأربعاء الثاني من آذار مارس بحثاً عن حقيقة"جن الخرج"، لم تقتصر على اثنين، فالزميل صالح العلياني شارك فيها، والشاب الموظف في احد البنوك عبدالله الشمراني استهوته الفكرة وبات الليلة مع فريق"الحياة"- إبراهيم وسلطان وصالح، في"قرية جن"أخرى. إضافة إلى أن محمد الدخيني لحق بهم صباح يوم الخميس. الشبان اختاروا مكاناً خلف قرية مهجورة في سفح جبل، قريباً من عين، وبعيداً من المناطق المأهولة بالسكان، ينتظرون وينتظرون... كل ذلك بعد منتصف الليل. العاشرة مساءً، في"زميقة"البلدة الصغيرة التي تقع بين"الدلم"و"خفس دغرة". خمسة أو ستة شبان تتراوح أعمارهم بين ال15 وال17، توقفت أمامهم سيارة دفع رباعي. انفرجت نافذة السيارة الخلفية المتشحة بالسواد، ليقول صالح: هل تعرفون قرية اسمها المشطّب؟ رد أحدهم متهكماً بلهجته المحلية:"لا... نعرف المليونير". أثار كلام الشاب الضحك، قبل أن يقطعه سيارة سيدان توقفت ليطل من نافذتها رجل في عقده الرابع وسمته الشمس بسمرة تميز أبناء البادية. كان معه طفلان لا يتعدى عمر أكبرهما الثالثة. سأله إبراهيم: إلى أين يوصل هذا الطريق؟ قال: إلى"عين الخفس"،"خفس دغرة". استدرك إبراهيم: هل تعرف قرية يسكن فيها الجن؟ لا يزال الرجل محافظاً على ابتسامته، إلا أن ملامح الاستغراب بدت على وجهه وجوه الشبان الذين يقفون حول السيارة"بتحصلونهم... في الخفس"، يقول بابتسامة غريبة. وصف الطريق إلى"خفس دغرة"بدقة، وروى:"أسمع أصواتاً في الليل، حيث أسكن، أصوات رقص ولعب وهرج وجلبة". يؤكد أنها أصوات الجن. سأله صالح عن"المشطّب"؟ فقال:"الشاطب... تقع في الأفلاج. 200 كيلومتر من موقعنا". قلنا له"المشطب"! أكد أنه لم يسمع عنها من قبل. قبل أن نتحرك قال بعامية بحتة:"سوقوا بشويش... لا تسرعون عشان ما يوذونكم"! طريق القرية المهجورة البوصلة تشير إلى 38 ْ جنوباً. الزميل محمد الدخيني أكد لنا عبر الهاتف المحمول أن الشبان صغار السن، لا يعرفون المشطب. وصفه لطريق خفس دغرة توافق مع وصف الرجل"سأصل عند الثانية صباحاً، منطقة عين خفس دغرة بعيدة من المناطق المأهولة بالسكان، وفيها قرية مهجورة قرب العين... يمكنكم المكوث فيها، حتى أصل إليكم وننطلق إلى المشطب"، يقول الدخيني. بعد نقاشات، اتفقنا على التوجه إلى"خفس دغرة"، لعلنا نظفر فيها بشيء. إلى هذا الوقت، لم يكن الشعور بالرعب موجوداً، ولعل ما أكد غياب الرعب، المواضيع التي تناولناها طوال الرحلة. كانت بعيدة كل البعد من قصص الجن، سوى مخيلة صالح عن"أبناء الجنية"أو"السبع القرين"الذين يقال إنهم أبناء جنية تزوجت بأبيهم بعد إعجاب استمر مدة من الزمان... أكثر من فأر، وجرذ، وقنفذ، كانوا يعبرون أمام الطريق! بحسب قصص الجن وحكاياتهم المشهورة، ف"الجني يظهر في بعض الأحيان متلبساً جسد حيوان"! هل يمكن أن تكون هذه الحيوانات جناً؟ وهل يمكن ان تكون هذه الحيوانات الصغيرة، هي تلك التي حدثنا عنها الرجل؟ على أي حال، كنا نقود بسرعة متوسطة، لم نصب أي حيوانات منها بأذى، كما أننا لم نشغل بالنا كثيراً بهذا الكلام، ربما كان الرعب في القرية أكثر. بداية الرعب قطعنا 20 كيلومتراً، وصلنا إلى جسر صغير سمح للسيارات بالعبور من فوق مياه السيول بعد أسبوع حافل بالمطر، توقفنا، وترجلنا من السيارة. سلطان يحاول التقاط بعض الصور الفوتوغرافية للمكان الذي أضفى عليه النور الأحمر لمكابح السيارة مسحة من الجمال، خصوصاً أن الظلام دامس. على مسافة ليست بالقريبة بدت أضواء إحدى السيارات تشير إلى اقترابها كل لحظة. السيارة كانت تسير بسرعة، إلى أن ضغط إبراهيم على زر ضوء الخطر المتقطع الفلاشر. بدا تردد السائق في الاقتراب واضحاً على سرعة السيارة، فهي تسير ببطء تارة وتقف تارة أخرى. أشعلنا بقية مصابيح السيارة، كي يتمكن سائقها من رؤيتنا بوضوح. أخيراً استجمع السائق قواه وتجاوزنا ملقياً التحية، لكنه قرر بعد 10 أمتار فقط أن يعود من حيث جاء. بعد أن اقتنع سلطان أن المكان ليس مناسباً للتصوير، سرنا بالسيارة إلى القرية التي لم تكن بعيدة من الوادي ? كيلومتر أو اثنان. توقفنا على الطريق الذي قسم القرية نصفين من المباني الطينية المتهدمة، وشبه المتهدمة. وجهنا إضاءة السيارة إلى الجزء الذي يقع إلى يسار الطريق من القرية. كان الصمت سيد المكان. لم يخترق سيادته صوت السيارة وأصوات حديثنا، ووقع أقدامنا الباحثة في أرجاء القرية عن مفاجأة من نوع مخيف."فلاش"الكاميرا كشف مساحة أكبر من الطين، كلما أومض. تجولنا في النصف الذي يقع على يمين الطريق، فالنصف الآخر بدا أكثر رعباً، بمنازله الكثيرة. دخلنا الأحواش والغرف. سمعنا صوتاً قوياً لطبيعة تغلبت على إنسان ذلك المكان. طبيعة جعلت من حاضرته القديمة التي كانت تعج بالحياة والقوة وأصوات الأطفال، حكايا أماسي يتناقلها أصحابها. طبيعة جعلت من بيوته الطينية مسرحاً لعوامل التعرية والحيوانات المشردة، والأشباح التي جئنا نبحث عنها! مغامرات فوق الطين بعد أن تركنا قرية الطين، تجاوزتنا سيارة بها شابان، استوقفناهما من دون أن ينزل أحدنا من سيارته. دارت بيننا أسئلة عن الجن و"المشطب"و"عين الخفس". أنكروا وجود العين والمشطب. أنكرا معرفتهما بنهاية هذا الطريق وإلى أي مكان يوصل. تركانا، وغير بعيد منا استدارت سيارتهما عائدة إلى حيث أتت. واصلنا السير وتجاوزنا في طريقنا إلى هذا المكان، مزرعة للدواجن ملأت الأرض والسماء بروائح كريهة، ما دفع عبدالله إلى التعليق:"لن يسكن الجن في مكان تفوح منه هذه الرائحة القاتلة". انتهى بنا الطريق المسفلت إلى واد رسمت أشعة القمر بعض التعرجات على وجه المياه القليلة فيه. بعد أن التقطنا بعض الصور للوادي والماء والقمر قررنا عبوره إلى الضفة الأخرى، فسيارتنا ذات الدفع الرباعي مؤهلة لذلك. دخلنا الوادي باحثين عن طريق أفضل للعبور، متفادين الحفر. ربما الشعور بالتيه، جعلنا نقرر العودة. لكن، الوحل والطين تمسكا بعجلات السيارة، التي بدأت تغوص في الوادي. ترجل أحد الشبان... وبدأ في توجيه السائق الذي نفذها ببراعةٍ جعلته يتباهي بأنه قائد ماهر - طارة، بعد خروجنا من هذه الورطة. لم يكد يكمل تباهيه، حتى أخذت السيارة في الزحف والانزلاق بعجلاتها الخلفية. لكن السائق أصر على أنه"طارة"حين"دعس"على دواسة البنزين، وخرجت السيارة إلى الضفة التي إلى جانب الطريق. عدنا إلى مكان القرية. سرنا في طريق وعرة، محاولين الالتفاف حولها. ثم ترجلنا. دخلنا بيوتها التي بلغ عددها أكثر من 40 بيتاً. استمر سلطان، كعادته، في ممارسة هوايته ومهنته في التقاط الصور للقرية. إبراهيم وعبدالله أثارت الغرف النظيفة جداً دهشتهما، خصوصاً وأن سقوفها لا تزال في حال جيدة. ذهب صالح راجلاً يبحث عن العين المعروفة، وربما بحثاً عن"الجن"أيضاً، بقربها. حكاية الجن... وحقيقتهم! تمر سيارة بيضاء، فيها مجموعة شبان ثلاثة او أربعة. لا يبدو انهم يقصدون مكاناً بعينه. هم يتجولون لا اكثر، مثل أترابهم. ينتبهون إلى فلاش كاميرا سلطان. سرعة سيارتهم تنخفض. يصيح احدهم بعد أن يخرج رأسه من نافذة السيارة، بجمل غير مفهومة. نرد نحن من القرية، فيصيح مرة أخرى ضاحكاً. ربما قال احدهم: يا جني... ولعلهم سيسردون قصة أصوات وأضواء سمعوها ورأوها بالقرب من القرية المهجورة، وسيتناقل الناس الحكاية، وسيضيف من يضيف عليها بعض الأحداث مثل:"دخلوا القرية ورأوا فيها حركة وجنوناً...". بعد أن نضحك كثيراً على الشبان الذين عادوا مرة أخرى، لكن من دون أن يجرؤوا على النزول من السيارة، نقرر أن نجلس. نأكل مما أعدته لنا زوجة صالح ووالدة سلطان، ونشرب قليلاً من الشاي والقهوة. افترشنا الأرض، في سفح الجبل خلف القرية، قريباً من"العين"التي وجدها صالح. تكلمنا في كل شيء، حتى الجن... النكت استحوذت على نسبة كبيرة من الكلام. إبراهيم وسلطان تناوبا على سردها. وطالما أن الهدوء سائد في المنطقة، فصوت أي سيارة تمر قريباً يبدو كصوت طائرة. لم يزد عدد السيارات عن عشرة على أي حال. ولم نكن لنعرف هدف هذه السيارات، إذ يصعب رؤيتها من المكان الذي نجلس فيه، لاسيما أن بيوت القرية تحجب الشارع عن أعيننا. ربما كان معظمها ? السيارات - يقصد مزرعة الدواجن، التي تبعد نحو كيلومترين من المكان الذي نجلس فيه، وبعضها لشبان يبحثون عن قصص يسردونها لذويهم، كجني يشير بيده أو ضوء يشبه الفلاش، وأصوات تصدر من القرية. ننتظر وننتظر وننتظر...."لعل الجن استأنسوا بنكتنا ولم يرغبوا في إيذائنا"، يقول عبدالله."ألا زلت تصدق بذلك؟"إبراهيم يرد، قبل أن يصر:"لو كان هناك جن، لكانوا أمامنا الآن... نحن في قرية مهجورة، في سفح الجبل، قرب العين، بعد منتصف الليل، والمناطق المأهولة تبعد أكثر من 20 كيلومتراً. إذاً فهذا أكثر مكان يناسب ظهورهم بحسب الأقاويل والحكايات... أين هم؟ لمَ لم نسمع صوتاً أيضاً!" الساعة الخامسة صباحاً الآن، بعد قليل يصل الزميل محمد الدخيني، الذي اتصل علينا مراراً، لكن هواتفنا المحمولة كانت خارج منطقة الاتصال. الدخيني سيقودنا إلى الباحث والمؤرخ سعد الدريهم، كي يكشف لنا حكاية"جن الخرج"! نوبات ذعرٍ في عالم "الجن" الذي لا نراه ... هل تتحول المغامرة في عالم الجن، إلى فاجعة؟ حين وصل الزميل الدخيني تجولنا في جبال"خفس دغرة"، قبل شروق الشمس بدقائق. سلطان كان يخاف على الكاميرا من التلف، لذلك تحرك ببطء وترو. وصل الجميع إلى قمة الجبل: إبراهيم وصالح ومحمد وعبدالله، لكن سلطان لا يزال في منتصف الجبل بين المغارات يلتقط صوراً. شعرنا بغيابه. بدأت أصواتنا تعلو: سلطان... لكن من دون جدوى. الصراخ لا يفيد، كل منا يفكر! هل يعقل ان الجن اختطفوا سلطان؟ تبدأ باستخدام صوتك بأعلى درجاته. لا فائدة، سلطان لا يجيب. لو تدحرج، لرأينا جسده في مكان هنا أو هناك، أو لسمعنا صوت دحرجته على الأقل. هناك من حاول النزول مرة أخرى بحثاً عن سلطان. دام غيابه نحو سبع دقائق، ليظهر من خلف صخرة والكاميرا تغطي وجهه، قبل أن يزيحها لتظهر ابتسامته. نال ما نال من السخط، والغضب. ربما كان يقضي حاجة، لكنه أثار الرعب في قلوبنا للحظات. الجبل الذي اختطف سلطان لدقائق، كان جميلاً في الليل. تسلقناه، قبل أن يصل الزميل الدخيني الساعة الثالثة صباحاً. لم نجد جناً على الأرض، ربما قررنا البحث عنهم في الجبل. الجبل الذي بدا كأنه عالم منعزل. لم نجد كلمات مثل: ذكريات... أو ما يشير إلى مرور المخربين من هنا. المكان يشبه عالماً آخر، بكهوفه ومغاراته. تشعر للحظة بنوبات ذعر، خصوصاً أن الماء غطى كل هوة، فلا نستطيع تقدير عمقها. نتسلق ونتسلق ونتسلق، إلى أنْ نشعر أنّ الطريق مغلق. "الجن في قلب هذا الجبل. يعيشون في عالم يشبه عالمنا تماماً، لا نراه. يأكلون ويشربون، ويخترعون... ينزلون إلى القرية، كي يجلسوا في الغرف النظيفة. ينظفونها، ويحافظون على سلامة سقوفها. ربما ينتقلون إليها في الصيف، ويعودون إلى الجبل في الشتاء". هذا خيال، يرسمه أي منا حين يكون في مكان مثل تلك القرية المهجورة، وربما ينقله إلى غيره وتسري الإشاعات عن الجن وحكاياتهم! لكن، هل ينتهي الناس من سرد الخيال؟ أم تبقى هذه القصص ساحة لزرع الرعب في أطراف من تسول له نفسه زيارة مثل هذه الأماكن أو الاقتراب منها؟ كيف يعيش الجن في هذه الأزمنة؟"لعلهم ? الجن ? شعروا بنوبات ذعر، حين وصلنا بكشافاتنا الضوئية، وكاميرا سلطان، وسيارتنا ال"جيب". ربما كان الجن مخلوقات ضعيفة تخشى الإنسان، وتختفي منه حين تراه. لكن، لماذا يخافها الإنسان، طالما هي تخافه؟ الإنسان يخاف من المجهول، يحكي عنه كثيراً. ربما كان الجن أيضاً يخاف من المجهول، ويحكي عنه كثيراً. وكلاهما لا يقترب من الآخر! ربما وربما وربما... يمكنك أن تحكي ما تشاء عن المجهول، فلن يكتشف الحقيقة أحد!