على رغم جهود الوزارة المعنية بشؤونهم، والمجتمع من حولهم، وسعي كل منهما إلى التخفيف من معاناتهم، إلا أن كل هذه المحاولات تظل غير كافية، وذلك لعدم استطاعتها تعويضهم عن حنان الأم وعناية الأب. وقد يكون وضع الأيتام في السعودية أفضل منه بكثير في عدد من الدول المتقدمة، إلا أن مشكلاتهم الكثيرة تدل على قصور واضح، اعترف به وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية عوض الردادي، في حواره الذي نشر سابقاً في"الحياة"، التي استضافت مجموعة من الأيتام المقيمين في إحدى دور الأيتام، وتحديداً مؤسسة التربية النموذجية في الرياض، وآخرين ممن طوي قيدهم ويعيشون خارج الدار، لطرح مشكلاتهم ومعاناتهم، وإيصال أصواتهم الجريحة إلى المسؤولين عنهم. على رغم كثرة مشكلاتهم التي تزيد من قساوة وضعهم الخاص، إلا أن ذوي الاحتياجات الخاصة، كما يطلق عليهم رسمياً ممن يعيشون خارج الدار، بدوا أكثر معاناة ممن ما زالت أسوار مؤسسة الرعاية تحتضنهم بما فيها من عيوب. وانقسمت مشكلات المطوية قيودهم إلى قسمين، إذ منها ما هو مباشر وملموس لديهم، ومنها ما نتج من أخطاء وقصور في التوعية قبل دمجهم مع المجتمع. عبدالله عبدالرزاق 24 عاماً، الذي اكتشف خيبته بعد مغادرته المؤسسة التي تحتضن الأيتام، على رغم الأحلام الملونة التي كان يرسمها في مخيلته، إذ كان ينتظر فرصة دمجه مع المجتمع لإطلاق العنان لقدراته الوهمية لتحقيق طموحاته. يقول عبدالله:"نجحت بمساعدة الوزارة في الحصول على وظيفة، براتب معقول نوعاً ما، إلا أني اصطدمت بحجم المسؤولية التي كانت تتولاها عنا الوزارة على رغم كل جوانب التقصير فيها، إذ أصبحت مسؤولاً عن تأمين المأكل والمشرب والمسكن لي، وكل ما يتعلق بي، وفوجئت بالمجتمع الذي يعتبر قاسياً على رغم تدخل ومساعدات الخيرين فيه، وافتقدت سؤال الآخرين عن صحتي وأموري المادية والنفسية، لأجد نفسي يتيماً فعلياً". وطالب عبدالله عبدالرزاق وزارته بتوفير اختصاصيين اجتماعيين حقيقيين لمتابعة الأيتام بعد مغادرتهم"الدار"، إذ اعتبر أن المشرفين الحاليين يشغلون مناصب شكلية، وينتظرون اتصال الأيتام بهم طلباً للمساعدة، ما يلغي معنى المتابعة. قطع المصروف ينذر ب"الانحراف" لم يختلف سلمان عبداللطيف المطوي قيده أيضاً عن زميله عبدالله في ما يتعلق بمعاناته، إلا أن مطالباته كانت توحي بمعاناة من نوع خاص، إذ قال:"تسمح مؤسسة الرعاية للأيتام ممن طويت قيودهم بالإقامة في المؤسسة في حال انقطعت سبلهم في توفير سكن خاص لهم، إلا أنها على ما يبدو تجهل كون الأيتام الشباب يحتاجون إلى ما هو أكثر من مجرد مأكل ومسكن توفره لهم من طريق أحد البنود الاستضافة، ولا أعلم إن كانت تجهل حاجتهم إلى الملبس والمصروف الذي تقطعه عنهم بمجرد طي قيودهم، ما يعرضهم لمد أيديهم كأبسط الحلول، بينما يتجه ضعفاء النفوس منهم، إلى طرق غير سوية للحصول على دخل وتلبية حاجاتهم". وطالب عبداللطيف أيضاً بتأهيل أفضل للأيتام قبل مغادرتهم الدار وطي قيودهم، ومنها على سبيل المثال، تعليمهم القيادة واستخراج رخص خاصة لهم، لإتاحة فرص دخل إضافي لهم، وذلك لتعويضهم عن الرواتب الشحيحة التي تمنحها بعض المؤسسات الخاصة التي تشغلهم، سعياً لإرضاء الوزارة وتلميع صورتها الخارجية. اليتيم يجهل أسلوب معاملة الآخرين وبدوره أشار زامل عبدالسلام 27 عاماً إلى نوع آخر من معاناة الأيتام الذين غادروا مؤسسة الرعاية، والذي يتجلى في عدم إدراكهم أنهم أصبحوا مسؤولين عن تصرفاتهم، وقال محملاً الوزارة سبب تفشي هذه الظاهرة:"غادرتُ دار الأيتام، وأنا أعتقد أني أصبحت مؤهلاً للاحتكاك بالعالم الخارجي، إذ لم أكن أتصور أن يتهاون المشرفون الاجتماعيون، الذين سلمتهم الوزارة مسؤولية تأهيلنا في أهم بند، وهو كيفية معاملة الآخر، وعادات وتقاليد المجتمع السعودي، إلا أنني صدمت بعد أيام قليلة من مغادرتي، وذلك أثناء جلوسي مع بعض زملائي في العمل، ودخول زميل آخر علينا، وكنت أردد بعض عبارات الترحيب أثناء جلوسي، بينما وقف الجميع للسلام عليه، وعلى رغم تكرار المشهد أمامي إلا أني كنت أجهل سبب ذلك، ولم أكن أعلم أنها من عاداتنا العريقة، ومن أهم أساليب احترام الآخر الوقوف لرد التحية، ناهيك عن أسلوب احترام الكبار والمسنين، وآداب الحديث، وغيرها، ما يجعل المتعاملين معنا يكتشفون كوننا من أصحاب الظروف الخاصة، على رغم أن ذلك لم يُطبع على جبيننا، وعلى رغم الموازنة التي تخصصها الدولة لرعايتنا". التوعية الأسرية... والاصطدام بالواقع لم يكن القصور التوعوي لدى الأيتام مقتصراً على معاملة الغير وآدابه كما أشار زامل، إلا أن الجانب الأسري، والحياة الزوجية تحديداً كانت من ضمن الأمور التي يجهلها الأيتام الذين كانت تجربة الزواج بالنسبة إليهم مغامرة فشل الكثيرون منهم في خوضها، واعتمد الكثيرون منهم على نضوجه الرجولي، وحيوية غريزته الذكورية، على تعبئة استمارة طلب الزواج، أو دخول التجربة خارجاً من استمارات الوزارة. وبينما يصعب تصديق بعض القصص التي رواها الأيتام ل"الحياة"عن هذه التجربة، كتطليق أحد الأيتام زوجته بعد بضعة أيام من زواجهما، لاعتقاده أنها مصابة بمرض جنسي خطير، إذ كان يجهل أمر الدورة الشهرية، ولم يخطر في باله أن الأمر مرتبط بجميع النساء، كما ذكر الأيتام أيضاً حالات طلاق أخرى كانت نتيجة الجماع الخاطئ للزوج الذي لم يفده أحد عن أهم ركائز الحياة الزوجية، إذ يعد الجانب الجنسي والوعي بأصول ممارسته بحسب تعاليم الدين الإسلامي من أهم عوامل استقرار الحياة الزوجية. وبعيداً مما ردده بعضهم عن تجارب أقسموا على صحتها، يكفي نقل تجربة اثنين منهم لتأكيد القصور في هذا الجانب، الذي يتحمل المشرفون عليهم مسؤوليته، يقول عبدالله عبدالرزاق الذي خاض تجربة زواج لم تتعد ثلاثة أشهر، إذ يجهل سبب انفصاله عن زوجته على رغم تعلقهما ببعض:"لم تكن زوجتي من الأيتام، وعلى رغم عدم دراية كلينا بأصول الحياة الزوجية أو آدابها، ولم تكن لنا خطط يضعها الأزواج العاديون أول اقترانهم ببعض، كالتخطيط لإنجاب أطفال، والتخطيط لمستقبل أبنائهم وغيرها، إلا أنني كنت سعيداً في الأسابيع الأولى من زواجي، ولم تكن زوجتي أقل سعادة مني، إلا أن إصابتها بمرض جنسي، أطلق الشرارة الأولى لانفصالنا، إذ لم أتردد في الانفصال عنها بعد أن استشرت أحد الأطباء وأخبرته عن بعض التفاصيل حول مرض زوجتي"، وساعد عدم إدراك عبدالرزاق مسألتي الزواج والطلاق، على اتخاذ قرار صعب بكل سهولة، وبعد سؤاله عن عدم التحري حول سبب المرض، وإن كان معدياً وخطيراً، أم كونه التهاباً بسيطاً، أفاد بعدم قيامه بذلك واكتفائه باستشارة بعض الأصدقاء، وعلى رغم أنه أبدى ندمه الشديد عن تصرفه غير المسؤول، إلا أن عبدالرزاق ما زال يجهل أهم قواعد الحياة الأسرية، وما زال دخوله تجربة زواج أخرى يعد مغامرة غير مأمونة العواقب، إذ اكتفى المشرفون على طلبات الوزارة، بالموافقة على استمارة طلب زواج من إحدى اليتيمات، بعد أن قام بتعبئتها، من دون تصحيح معتقداته عن الحياة الزوجية. أما زامل عبدالسلام الذي لم يتعد بدوره بضعة أشهر ليتحول إلى عازب من جديد، فعزا سبب طلاقه إلى جهل زوجته التي كانت تعيش مع إحدى الأسر البديلة في الرياض، بما يتعلق بأصول الحياة الزوجية، وعدم استعدادها للتضحية من أجل زوجها. وقال:"لم تكن زوجتي السابقة تجهل ما لها وما عليها في الحياة الزوجية فقط، بل كانت تجهل أيضاً ما يفترض أن يقوم به الزوج، وما يعد من اختصاصات الزوجة، بالنسبة إلى الأعمال المنزلية وغيرها، ويعود ذلك لكون الأسرة التي كانت تعيش معها، كانت تعاملها كخادمة، وساعد إهمال المشرفين والمتابعين لها، على زيادة جهلها"، وعن أهم المواقف يذكر عبدالسلام أن زوجته كانت تتوجه إلى البقالة، وتشتري قنينة الغاز وتحملها على ظهرها وتقوم بتركيبها، وكانت تجهل كيفية معاملة المرأة لضيوفها، وعلى رغم أن عبدالسلام حمّل زوجته مسؤولية الانفصال، إلا أن أخطاءها المذكورة، لا تعد من الكوارث التي لا يمكن تعديلها، ويدل انفصاله عنها، على جهله بكيفية التصرف في مثل هذه المواقف، وكيفية تعليم زوجته ما يفترض أن تقوم به، وما يفترض أن تمتنع عنه. وعلى رغم اختلاف حال عبدالرزاق عن حال عبدالسلام، إلا أن الحالين توحيان بكونهما لا يضعان احتمالية تصحيح الأخطاء، أو حل الخلافات الزوجية ومشكلاتها، ويعتقدان أن الطلاق هو النهاية الصحيحة في حال وجود أي خلاف. "الهاجس الأمني"... كابوس يراودهم كل ليلة على رغم اعتراف المقيمين في دور الرعاية ببعض إيجابيات الوزارة التي وفِرت لهم، إلا أن ذلك لم يكن الهمّ الوحيد الذي يشغلهم، إذ كان الهاجس الأمني أكثر ما يرهقهم، إلى الدرجة التي أصبحت فيها بعض حالات الاغتصاب التي تعرض لها بعض القُصَّر داخل الدار من زملائهم الأكبر سناً، كابوساً يقحم نفسه في أحلامهم الحزينة، إضافة إلى السرقات، وبعض التصرفات اللاأخلاقية، والتي نتجت من الفراغ الذي يعيشونه، وسوء التوعية والتغذية الفكرية. يقول أكرم أحمد 19 عاماً:"لا أظن أن الشح في الكسوة والمصروف يقلق الأيتام، أو يشغلهم كما يقلقهم قدر الجانب الأمني، إذ أصبح الواحد منا لا يخلد النوم قبل أن يبحث عن مخبأ آمن لأغراضه الشخصية، كالهاتف الجوال والساعة ومحفظة النقود، وكل هذا يجبر الأيتام، وخصوصاً الصغار، على الاستيقاظ كل فترة، للتأكد من عدم تعرضهم لأي مكروه". وأشار أيتام آخرون إلى معاناتهم مع المواصلات، وعدم التزام الموظفين والمشرفين عليهم بدوامهم، وما عليهم من التزامات، مؤكدين أن كل ما قد يحتاجون إليه وضعت له الوزارة بنداً، وعينت لتطبيقه أشخاصاً لم يتحملوا مسؤولياتهم كما يجب، ووصف عدد منهم المؤسسة التي يقيمون فيها ب"وكالة من غير بواب"، ولا يقوم عليها أكفاء. واقترح بعضهم من أجل تخطي بعض المشكلات المتعلقة بعلاقة المشرفين بالأيتام المقيمين، تكريم أفضل المشرفين شهرياً، وإن اقتصر الأمر على خطاب شكر، بينما يكون التكريم السنوي بمكافأة مالية، ودرع تكريم يسلمها الوزير للمشرف المثالي. وحول علاج سوء السلوك الذي تمكّن من عدد كبير من أيتام دور الرعاية، فيقول محمد عبدالله 19 عاماً:"الفراغ أهم عوامل دفع اليتيم نحو الانحراف، ولو دعمت الوزارة مواهب الأيتام، لاستفادت منهم، وفي الوقت نفسه وانشغلوا بهواياتهم ومواهبهم جل وقتهم، وعملوا على تطوير إبداعاتهم، ولما توافروا على الوقت الكافي للتأثر بالسلوك اللا أخلاقي، الذي يلجأ إليه البعض كنوع من التغيير، وكسر روتينه اليومي". وفي ما يتعلق ببعض أساليب العقاب الذي يلجأ إليه بعض المشرفين، كحرمان اليتيم من مصروفه، وغيرها، فاعتبرها عدد من الأيتام بالعقاب غير المنصف، إذ يقول سالم عبدالرحمن:"ألم يفكر من يقوم باتخاذ قرار عقاب اليتيم بحرمانه من مصروفه، بإمكان مد يده إلى الغير، أو محاولة سرقة مصروف زملائه، وهذا الأمر كثيراً ما يحدث عندنا في المؤسسة".