كان بطيئاً في مشيته عندما اخترق مجموعة من الأطفال تلهو وتلعب في أزقة إحدى قرى محافظة الأحساء. شارد الذهن، رأسه مطاطأ إلى أسفل. علق بين إصبعيه سيجارة على وشك الانتهاء، أسقطها على الأرض من دون أي اعتبار. أثار انتباه الصغار، فأسرع أحدهم لالتقاطها خائفاً. نبهه من كان بجانبه"سيضربك أبوك ان عرف بذلك". رد عليه"أبي يدخن"، غير أنه رمى السيجارة، بعدما كاد يضعها في فمه. هذه قصة ضمن منشور يوزع لمكافحة التدخين، ويدعو الى تركه وتحذير الاطفال منه. لكن ظاهرة التدخين بين صغار السن في المدن والقرى، بدأت تنتشر في الآونة الأخيرة في صورة سريعة، خصوصاً في أوكار خفية في بيوت لم يكتمل بناؤها، او في أخرى هجرها أصحابها، أو بين الأشجار والنخيل، أو"عشش"يبنيها الصغار من خشب وألومنيوم غير صالح في حفرة بسيطة العمق. وعادة ما تكون هذه الأماكن بعيدة عن الأنظار، فينصبون أحدهم لمراقبة التحركات حولهم، ويدخنون بصمت. ويقول عبدالله حسين وهو احد المهتمين بهذه الظاهرة:"إن التدخين عند الصغار يصبح مع مرور الوقت عادة اجتماعية مألوفة، على رغم أنه جريمة بحقهم". ويتهم عبدالله الآباء ب"اللامبالاة"، معتبراً ان"الظاهرة تنامت في ظل غياب دور الأسرة التي قلت رقابتها على الأبناء. فعندما ننظر إلى شخص صغير السن يدخن أمام أبيه من دون ان يستنكر عليه والده ذلك، فتلك مصيبة. فالسيجارة والشيشة والنارجيلة أصبحت شيئاً عادياً في بعض البيوت وكذلك في زمن المقاهي والجلسات الشعبية". ويرى المواطن صادق علي ان"كثيراً من المراهقين يدخنون ترويحاً عن أنفسهم، أو ليشعروا برجولتهم، أو بحثاً عن ذواتهم، أو ليلفتوا أنظار الناس اليهم عندما يشعرون بالنقص"، مبدياً استغرابه قيام بعض الصغار"الذين لا يملكون مالاً بابتكار وسائل بدائية يصنعونها بأنفسهم لتدخين المعسل". ويضيف"نواجه الآن حملات دعائية وإعلانية تسويقية من شركات التبغ، موجهة إلى صغار السن والشباب تحت مظلة رعاية المناسبات الرياضية أو الترفيهية، لإظهار بعض المشاهير المعروفين، قدوةً"لأبنائنا"في هذا الصنع. فبعض المدخنين يعتبرونها نوعاً من الرجولة والحرية الشخصية، أو ملاذاً من الفراغ أو مشكلات معينة، أو مساعداً على التفكير والتركيز، أو من باب الوجاهة، إذا كانت غالية السعر". وتنفق شركات التبغ مبالغ طائلة على الدعاي ة لمنتجاتها في دول مجلس التعاون، ويبلغ إنفاق شركة"فيليب موريس"وحدها نحو عشرة ملايين دولار سنوياً، منها 3.9 مليون دولار تنفق في الكويت فقط. وأوضحت دراسة أجرتها وزارة التربية والتعليم على تلامذة المدارس الحكومية في مدينة الدمام، وشملت 752 تلميذاً من المرحلتين المتوسطة والثانوية، أن 30 في المئة منهم مدخنون، وأن 90 في المئة من هؤلاء بدأوا التدخين في مرحلة باكرة. كما بيّنت الدراسة أن 55 في المئة من طلبة السنة النهائية لا يقدرون احتمال إصابتهم بالإدمان، وأكدت الدراسة أن 66 في المئة من المدخنين تتفاوت أعمارهم بين 12 و17 عاماً. وذكرت دراسة أخرى ان نسبة الأطباء والمعلمين المدخنين في كل من السعودية والإمارات والكويت تتراوح بين 30 و50 في المئة. ويذكر أحد المختصين أن هناك"ازدياداً في عدد المدخنين في مجتمعاتنا العربية، خصوصاً في البلدان النامية والفقيرة، بحسب منظمة الصحة العالمية، التي تشير الى ان مضار التدخين تثير الرعب والفزع، ففي كل ثماني ثوان يموت شخص في العالم بسبب هذه الآفة العصرية. كما ان مضار التدخين لا تقتصر فقط على المدخنين، بل هناك ما يعرف بالتدخين السلبي. وتقدر دراسات نسبة المتضررين من التدخين السلبي بنحو 70 في المئة من دخان السيجارة الواحدة. والمفارقة العجيبة أن تكون شركات التبغ شركات مملوكة من دول تنفق بلايين على علاج الأمراض الناتجة عن التدخين". وأظهرت إحصاءات السجل الوطني للأورام حول ثلاثة أنواع من السرطانات لها علاقة بالتدخين، أنه تم تسجيل 2350 حالة سرطان للرئة في المملكة بين عام 1994 وحتى عام 2000م، بينما تم تسجيل 1681 حالة سرطان للفم من عام 94 وحتى عام 2000م، وسجلت 1854 حالة سرطان للمثانة البولية للفترة ذاتها، إضافة إلى 2350 حالة سرطان رئة بينها 1741 سعودياً، منهم 374 امرأة. وقدرت إحصاءات رسمية خسائر مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز أبحاثه من علاج حالات مرضية بين المدخنين، بأنها بلغت عشرة بلايين دولار، تم إنفاقها خلال 25 سنة مضت. وهذا ما دفع المستشفى إلى الاستمرار في مقاضاة شركات التبغ، مطالباً بتعويض مالي بقيمة المبلغ الذي أنفقه على علاج المرضى.وكشفت إحصاءات مركز المعلومات في المصلحة العامة للجمارك التابعة لوزارة المالية عن عام 2002 ان قيمة التبغ المستهلك في المملكة بلغت 1.4 بليون ريال. أما في عام 2003 فبلغت 1.3 بليون ريال. واتخذت المملكة إجراءات عدة لمكافحة التدخين، منها حملات التوعية، ورفع رسوم الجمارك على التبغ ومشتقاته بالتنسيق مع دول الخليج الأخرى، وكذلك التنسيق لمنع التهريب.