عاش الحروب كلَّها مُختبراً الخنادق والمتاريس والغرف السفلية والملاجئ والمعتقلات وسواها من مفردات التقاتل الأهلي وغير الأهلي الذي عرفه لبنان منذ العام 1975 حتى مطلع التسعينات من القرن الماضي يوم تم إعلان"انتهاء"الحرب رسمياً. لم يشعر يوماً بذرة خوف أو وهن، كانت فورة الشباب وحماسة المراهقة أقوى من عصف الصواريخ ودوي المدافع وأزيز الرصاص، حاله في ذلك حال جيل كامل من أبناء الحرب الذين اختبروها واكتووا بنيرانها قبل أن يكتشفوا زيف الكثير من شعاراتها ويتكسر الكثير من أحلامهم على صخرة واقع طائفي آسن ومرير. يومها كان ابناً لا أباً، ما من مسؤوليات على عاتقه وما من عائلة أو أطفال، كان هو الطفل الذي كبر قبل الأوان، استبدل اسمه المدرسيّ بلقب أكثر خشونة ورجولة، والطباشير وأقلام الرصاص برصاص حقيقي خارق حارق متفجر. كان يصول ويجول لا خوف يعتريه ولا ندم، يخوض في وحول الشتاء مهللاً متيمناً على ما يقول ايليا أبو ماضي، راسماً تحت شمس الصيف الحارقة أحلاماً تُشبه خضرة الحقول في براري طفولته الشقية الشيّقة الشاقّة. لا يشعر الابن بالخوف الذي يعتري الأب، لا يخال الموت قادراً على الوصول إليه أصلاً، غليان الحياة في قلبه وفائض الحماسة في أوردته يصفّحانه ضد كل أشكال الفزع والجزع، حلم التغيير يشحنه بطاقة هائلة على التحدي، تحدي الحياة نفسها قبل أي أمر آخر. وهكذا كان، مسكوناً بقوة الحياة نفسها، بأحلام التثوير والتغيير، وبالغد المشرق الضاحك المنبلج من ثنايا رايات ترفرف عالياً، ومعها ترفرف أفئدة فتية آمنوا بأحلامهم وامتشقوها سلاحاً يطعن الظلم والقهر والعسف والاستبداد. اليوم صار الابن أباً، ليته ذاق طعم الأبوة قبل رحيل والديه، لعله كان سيفهمها أكثر مُقدّراً خوفهما عليه وتعلّقهما به. لا يندم الفتى الذي كان، على ماضيه وتجاربه ولا على ما اختبره من صروف العيش، تلك كانت تجارب رائعة تعلّم منها الكثير وشكّلت معينه الذي لا ينضب حتى يومنا هذا، لكنه مذ صار أباً صار أكثر خوفاً وهشاشة، يخشى على طفليه الصغيرين من نسيم الصباح ومن لسعة الشمس في عز الظهيرة ومن قرّ الشتاء قبل هطول المطر، ويسعى جاهداً منذ وُلدا ألا يَسمعا ولو أزيز رصاصة في البعيد البعيد. خوفه على أطفاله يجعله أكثر تعاطفاً مع أطفال الدنيا كلها، خصوصاً المقتولين منهم والمعذبين والمشردين والنازحين والقابعين تحت سيف الاحتلال البغيض. صار كلما لمح طفلاً باكياً في الشارع أو على الشاشة يحبس الدمع في عينيه، وكلما سمع خبراً عن مقتل طفل هنا أو هناك يعيش نوبة هلع لا تستكين قليلاً إلا لحظة احتضانه طفليه كما يحتضن عازفٌ كمانه، متسائلاً عن حقهما وحق أترابهما في العيش من دون خوف أو جوع أو مرض أو موت قبل الأوان. لماذا لم يعرف أسلافنا كيفية بناء وطن يليق بأبنائهم، ولماذا نعجز نحن أيضاً عن توريث أبنائنا وطناً يليق بنضارة براءاتهم وخضرة أحلامهم، ولماذا هذا التناسل المريع للأزمات والحروب؟ يطرح أسئلة العارف المدرك أن هذا النظام الطائفي البشع هو المسؤول الأول والأخير عن جلّ مآسينا، وأننا لن نبني وطناً ما لم نصرْ شعباً أولاً، حتى اليوم لا نزال مجموعة قبائل طائفية ومذهبية متناحرة، حوّلنا التعدد من نعمة إلى نقمة والتنوع من مساحة تفاعل وتناغم وحوار إلى ساحة تقاتل وصراع وغرقنا في دمائنا ونحن ندّعي وهم البطولة والخلاص. * * * كتبتُ لطفلتي يوماً وعبرها لكل الأطفال:"أصلي خلسةً/ كي لا يسمعني أحدٌ سواه/ لا يحفظك أحدٌ سواه/ كي لا تقع الحرب مرةً أخرى/ لتظل سماؤك ماطرة ونهاراتك مشمسة/ ليكلّفَ قمراً آدمياً بحراسة نومك/ ليرحل الغزاة قبل أن تتعلمي المشي/ ليسقطَ الطغاة قبل أن تنبت أسنانك الحليب..." آه كم تختلف الحرب بين أن تكون ابناً أو أباً!