يشكو اللبنانيون منذ عهد الاستقلال، من تقصير الحكومات في تطوير قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة وتنميتها، وتأمين الخدمات الأساسية. علماً أن"القطاع"الذي نما وترعرع هو الفساد، الذي بدأ متواضعاً في بداية جمهورية الاستقلال ولكنه ازداد"نشاطاً"بعد ذلك، مخترقاً أعلى دوائر الدولة وبات سداً منيعاً لا يخترق إلا بالرشوات والمحسوبيات. وعلى رغم حملات تطهير الموظفين الفاسدين، ظل الفساد ناشطاً لأن جرعة التطهير كانت ضعيفة وربما أدت احياناً الى تشجيع بعض كبار الموظفين على الفساد لأن العقاب كان غير ذي أهمية. ويوم ابتدعوا قانون الإثراء غير المشروع مستهدفين كبار السياسيين والموظفين من وزراء ونواب، سقط القانون ووُضع جانباً. ويقول أحدهم إن مجموعة الفاسدين في لبنان متضامنة متكافلة على رغم تنافسهم أحياناً على اغتنام الفرص. الظاهرة الغريبة أن كل الفضائح المالية والادارية وحتى مخالفة الدستور يقابلها الناس بلا مبالاة. وإذا تجاوزنا النظريات ودروس الوعظ والإرشاد، نتطرق الى واقع ما يشكو منه المواطنون على صعيد التنمية وتطوير أسس حياتنا اليومية. فأول ما يعتبره اللبنانيون رمزاً من رمز تقصير الدولة إهمالها قطاع الكهرباء. وأول ما يصدمنا في مسيرة مؤسسة كهرباء لبنان هذا التدهور المريع الذي أصاب المؤسسة التي كانت في يوم من الأيام ذات نظام يضاهي"مؤسسة كهرباء فرنسا"، وفق الوزير الراحل ميشال ضومط عندما كان وزيراً للصناعة والنفط. ما حدث أن عدداً من حيتان المال - وما أكثرهم في لبنان - كانوا ينادون تارةً بتخصيص المؤسسة ومعامل الانتاج وأخرى بتخصيص خطوط النقل وثالثة، حقوق الجباية. وكان الهدف إضعاف المؤسسة إدارياً وفنياً الى حد افلاسها ومن ثم بيعها الى القطاع الخاص بأرخص الاثمان، علماً أن الدولة تنفق سنوياً البلايين لتأمين الوقود من دون أن تتمكن المؤسسة من زيادة طاقتها الانتاجية الى الحد المعقول. وكان الأحرى بالدولة ان تنفق جزءاً من هذه البلايين في بناء وحدات حديثة للانتاج وبالتالي رفع مستواه الى حدٍ كبير، لكن شيئاً من هذا لم يحصل. واليوم برزت خطوات عملية لتطوير المؤسسة وتلزيم بناء وحدات انتاجية من شأنها مع الوقت إلغاء التقنين الذي يشكو منه اللبنانيون منذ عقود. لكن نخشى أن يدخل شيطان النكايات والنزاعات السياسية ليعرقل هذه المشاريع. أما بالنسبة الى مياه لبنان، فإن أحد اللبنانيين المهاجرين الى ألمانيا منذ سنوات، فوجئ ذات يوم وهو يهم بدخول أحد المتاجر الكبرى بوجود خريطة للبنان وقد غمرتها شلالات من المياه. وهذه الخريطة هي في الواقع أسوأ دعاية لبلدٍ متخلفٍ لا يحسن الافادة من ثروته المائية، وتعتبرها اسرائيل حجةً للمطالبة بمياه لبنان عوضاً عن أن تصب في البحر. على أن لبنان منذ الاستقلال لم يكن غافلاً عن ثروته المائية، إذ كانت هناك دراسات معمقة لتنفيذ مشاريع تتعلق بري مساحات كبيرة من الاراضي الزراعية وتأمين مياه الشفة، وتنفيذ مشاريع لتوليد الكهرباء. ويعتبر المهندس الراحل ابراهيم عبد العال رائداً في وضع الدراسات للثروة المائية ولا سيما في الجنوب والبقاع. كما كان يقوم شخصياً بدرس منسوب المياه لبعض الأنهر اللبنانية خلال الفصول الاربعة. واستمر من جاء بعده من مهندسين وخبراء وعلى رأسهم سليم لحود، في متابعة الدراسات وتنفيذ بعض المشاريع ولا سيما مشاريع انتاج الكهرباء. على أن المشروع الأهم الذي اهتم به عبد العال ومن جاء بعده، هو مشروع استثمار مياه الليطاني الهادف الى رّي المساحات الشاسعة من الأراضي وتأمين مياه الشفة للآلاف من السكان. وقام نقاش دام سنوات حول تنفيذ المشروع تقنياً، وفي النهاية حدثت المعجزة وتقرر تنظيم المشروع على مراحل، وعلى مستوى 800 متر. مشاريع حيوية أخرى خطط لها لاستجرار مياه نهر الأولي الى بيروت لسد النقص في مياه الشفة، ولكن برز مشروع آخر يقول باستخدام مياه نهر الباروك ولكن الأمر توقف عند هذا الحد. وأخيراً ظهرت دراسات دولية تشير الى تبدلات في المناخ ستؤدي الى تصحّر بلدان الشرق الاوسط ولن يكون لبنان في منأى عنها، ومن هنا لا بد من الإسراع في بناء عشرات السدود في كل أنحاء البلاد، ما يخفض من وطأة أي تصحّر قد يصيب لبنان في المستقبل. ويبدو أن وزارة الطاقة والمياه تنتهج في المجال سياسة واقعية لمتابعة بناء السدود، ويبدو أن الدراسات المتعلقة بها أنجزت والمطلوب تلزيمها. وإذا كانت مشاريع المياه والكهرباء وضعت على طريق الحل خلال مدة نرجو أن تكون قريبة، فإن شكاوى الناس لن تزول قبل أن تنعم بالنور ومياه الشفة، وأن ينعم المزارع بمياه الرّي ليعيش من خيراته. وهناك شكاوى قد لا يجد اللبنانيون حلاً لمعظمها كالفساد المستشري في دوائر الدولة وعلى أعلى المستويات، وسيطرة مافيات الدواء والمواد الغذائية وعدم إنصاف الموظفين والعمال على مستوى الأجور لمواجهة الغلاء المتسارع. ولا ننسى مافيا الغاز المنزلي التي لا تتحكم فقط بالأسعار، بل تتهاون في تطبيق السلامة العامة. هذه الشكاوى وغيرها لا تحل بالدرس النظري وإنما بإدارة حكومية واعية وأجهزة تنظيمية حازمة، لأن أمراض لبنان كثيرة ويصح فيها قول الشاعر: تسألون عن سقمي صحتي هي العجبُ. كاتب متخصص بالشؤون الاقتصادية - بيروت