خبران سيئان صُدم بهما الموظفون والمتقاعدون في هذه الدولة السعيدة، أي لبنان. الأول عدم دفع مستحقات الموظفين والمتقاعدين من المساعدات المرضية والمدرسية. والثاني، احتمال ألا تتمكن الدولة من دفع رواتب المتقاعدين آخر الشهر. طريقة تصرف حكامنا أمر مستغرب. يقعون في الأخطاء ولا يعرفون سبيلاً للتصحيح حتى في شؤون حياتية تمس فئة من الناس أفنوا شبابهم في خدمة الدولة بكل ما لديهم من إخلاص وتفان، وكانت الأساس في قيام إدارة حكومية اعتُبرت مثالاً في المنطقة. كان هناك رجال دولة على مستوى وطني رفيع وعلى مستوى إنساني أرفع. فماذا حدث؟ خلال أحداث دامية طائفية فُرضت على اللبنانيين وخلفت ضحايا أبرياء، انهالت عليهم القذائف من السماء والأرض واستشهد فيها الآلاف، وخلفت عشرات الآلاف من الجرحى والمعوّقين. ومع ذلك لم تتوقف الدولة عن دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين ولا توقفت عن دفع المساعدات المدرسية. اللبنانيون في الداخل صمدوا على رغم أوضاع اقتصادية صعبة. كانوا يبحثون عن الخبز فلا يجدونه لا في الأفران ولا في السوق. هؤلاء كانوا يشكلون معظم الشعب... أما الفئات التي غرفت من خيرات البلد حراماً وحلالاً، فكانت تسرح وتمرح في عواصم أوروبية وكأن ما يحدث في وطنهم من مآسٍ يحدث في عالم آخر. وفي هذا المجال، تلقت سيدة في باريس درساً قاسياً، إذ دخلت إلى متجر عريق تريد شراء معطف فاخر، وسألت عن السعر وأجيبت، فكشفت السيدة عن هويتها اللبنانية وبدأت تساوم على السعر وقالت استعطافاً: - أنا مهجّرة من لبنان وأرجو مراعاتي. انتفضت البائعة الفرنسية وقالت: - بلدك يحترق وأنت تشترين أفخر الثياب؟ تفضلي واخرجي من المحل فأنا لا أريد التعامل معك. هذه الصورة البشعة لبعض أثرياء لبنان ما زالت حاضرة ولكن في الداخل لا في باريس. أثناء الأحداث، حالت الأوضاع الأمنية دون ممارسة الموظفين عملهم، إلا أنهم كانوا يتقاضون رواتبهم بانتظام، حتى زيادة غلاء المعيشة كانت تصرف لهم وللمتقاعدين. كان الأمن هاجس من كانوا يزاولون عملهم في الإدارات العامة المتعلقة بشؤون الناس اليومية، كالكهرباء والنفط والإعلام وسلطات الأمن. موارد الدولة من معظم الرسوم المرفأ والجمارك والمطار كانت تحت سلطة الميليشيات وعلى رغم من ذلك كان المواطن يعيش بكرامته، كفاف يومه، وكل هاجسه كما ذكرنا الأمن. انتهت الأحداث وتقابل من كانوا يتقاتلون بالعناق والقبلات الشياح - عين الرمانة، ولاحت أمام اللبنانيين ملامح ازدهار اقتصادي ورفاهية، وظلوا سنوات يحلمون، إلا أن أحلامهم كانت تتبخر مع مرور الزمن. قضي على الطبقة الوسطى، وهي عصب الاقتصاد الوطني، وطغت موجة زيادات على الرسوم والضرائب. حتى رسم الانتقال ارتفع بنسبة عالية، فمن يرث منزلاً كان يعجز عن نقل ملكيته إليه في بعض الأحيان. الضريبة على الدخل قبل الأحداث كانت تصاعدية، حدها الأقصى يبلغ 47 في المئة، وخفضت إلى 10 في المئة تسحب على الأرباح الكبيرة كما على الأرباح المتواضعة، وقيل يومها إن الإجراء اتخذ لتشجيع الاستثمار! ومع بداية عهد الجمهورية الثانية جمهورية الطائف، بدأ الدَّين العام يتصاعد بشكل منقطع النظير. فمن دَين عام كان في حدود 1.8 بليون دولار، بلغ اليوم 72 بليوناً، منها عشرة بلايين لصندوق الضمان. الخزينة تدفع سنوياً 4.5 بليون دولار فوائد على الدين العام، تُنتزع من جيوب الناس وأمنهم واستقرارهم الاقتصادي. ولو كانت هذه البلايين باقية في خزينة الدولة، فكم كان بالإمكان حل كل المشاكل الاجتماعية والإنمائية؟ الموازنة العامة مخاضها عسير منذ سنوات، فكيف يمكن لأي دولة في العالم أن تدير البلاد من دون موازنة؟ والقصة متوقفة عند قطع حساب الموازنات السابقة. يقول أحد فقهاء الدين: قطع الأعناق من قطع الأرزاق. وأخشى ما أخشاه أن تقطع الدولة أعناق المتقاعدين بقطع أرزاقهم قبل أن تتمكن من قطع حساب الموازنات السابقة. ويقال في سياق قطع أرزاق المتقاعدين أن سلسلة الرتب والرواتب التي أعدتها وزارة المال استثنت المتقاعدين. أرجو أن يكون هذا الخبر مجرداً من الحقيقة. كاتب متخصص بالشؤون الاقتصادية - بيروت