أمي وأم سعيد ونسوان وشباب من حارتنا والحواري حوالينا هجموا كلهم على القسم في عز النهار، وشتموا وجرّسوا الضباط وأمناء الشرطة ورموهم بالطوب وفوارغ البيبسي، وبعد أخذ ورد واشتباكات، أخرجوني أنا وخمسة من العيال، كانت عساكر الأمن المركزي قفشتهم وسلمتهم للشرطة. سارت أمي تسبّ وتلعن الحكومة وعساكرها وسنينها مع بقية الناس، ومشيت إلى جانبها ملازماً لخطواتها رغماً عني، لأنها كانت تُحكم قبضتها على رسغي اليمين، وبقيت تشتمني والغيظ طالع من عينيها، بكلام يحرق الدم من نوع: والله لأعرفك إن الله حق، وأخليك تفوق لروحك وحالك، وتعرف مقامك ووضعك. الثورة خلصت خلاص، والتظاهرات انتهت وصبحت بح، وانت ما زلت تارك دروسك وشؤونك، وملموم على جماعة عيال أوباش، ماشي معهم كل حين وحين عند الفنادق، تزقلوا العساكر بالطوب، بمناسبة وبغير مناسبة، وجاعلين رؤوسكم برؤوس الحكومة ولولا أن محمد بن أم سعيد شافكم بالصدفة وخبرنا، لكنتم كلكم في خبر كان والجن الأزرق نفسه لا يعرف لكم طريق. نسيت أوجاع رسخي المحبوس بيدها، وفار دمي، ليس من عساكر البوليس وأمنائه الذين ضربونا وطفحونا الدم، لكن فوران دمي كان سببه كلامها المنقوع في السم، فحتى حسرتي على ضياع ربع الجنيه باقي مصروف امبارح في الحجز لم تعد تمرمر روحي بعد هذا الكلام. زفرت وحاولت تمليص نفسي من يدها، لكني فشلت، فتشاغلت بالنظر سريعاً إلى الدببة الصغيرة والدببة الكبيرة ذات الألوان الحمراء والصفراء القابعة خلف واجهة زجاجية لأحد المحلات التي كنا نعبر إلى جوارها على الطريق. تمنيت أن تكون لدي واحدة منها أحتضنها وقت النوم، أو أحكي لها حكاية من الحكايات أقولها بين وقت وآخر لنفسي، كما تمنيت أن تتوقف أمي قليلاً عن المسير لأملي نظري منها على الأقل، لكنها ظلت تسحبني من يدي، فقلت بينما كنت أحاول حك ركبتي المتورمة بسبب الضرب بأصابع يدي الطليقة الأخرى: طيب. لو كانت الثورة خلصت حسب كلامك، هل كانت الشجاعة تملكتك أنت وأم سعيد وبقية النسوان، لدرجة الوقفة عند مدخل القسم ورميه بالطوب وفوارغ الحاجة الساقعة؟ فاكرة قبل الثورة كنت تخافي تقربي من القسم أو حتى المرور من ناحيته، زمان قبل الثورة كنت تتلبشي من رؤية أي عسكري حكومة جربان تلاقيه في طريقك. ثم لو كانت الثورة فشلت حسب كلامك، لكنت ما زلت شغال خدام ومرمطون عند حضرة الناظرة مديرة مدرستنا، أروح لها بعد انتهاء الدراسة كل يوم، لأشتري لها الخضار ولوازم البيت، وأطلع لها سلالم كذا دور، وأنا محمل كل شيء، نظير أن تعفيني من فلوس مجموعة دروس العربي، لأنك لست حمل دفعها. الناظرة لا تطلب مني فعل ذلك بعد الثورة أبداً، لأنها عارفة أني سأقول لها... لا... لا، كان زمان وجبر، وأحب أعرفك أن الثورة لو كانت شطبت، لكانت الناس كلها خافت وخرست وبطلت هتاف، أو لكنت أنا بنفسي خفت وبطلت هتاف، لكن الثورة مستمرة حتى شوفي. توقفت عن المسير فجأة، فتوقفت رغماً عنها، خوفاً من إفلات يدي من يدها، زعقت بعزم ما فيّ: يسقط... يسقط حكم المرشد. رأيت رجلاً عجوزاً يسير خلفنا، يرتدي جلابية كالحة ويضع على رأسه قفص ليمون، سمعته يردد بعدي بصوت شاحب مبحوح: ألف ألف مرة. مشيت بعد ذلك حانقاً جداً، أقول لنفسي إنها لا تفهم، لا تفهم معنى الثورة بالنسبة إلي، ولا تعرف أنها أجمل شيء حدث طوال حياتي، رغبت في مواصلة الهتافات التي لا أمل من ترديدها، وأحفظها حفظي لآيات القرآن المقررة علينا في المدرسة، خصوصاً ذلك الهتاف الجميل الذي يشبه أغنية وسمعته لأول مرة في ميدان التحرير، وكنت أقوله في أي مكان أذهب إليه:"علي وعلي وعلي الصوت، اللي بيهتف مش حيموت". لكن يبدو أن هتافي المفاجئ قد ضايقها وجعلها تتعصب أكثر، فقالت بحنق وهو ما تفعله عادة عندما تكون متنرفزة: طيب... ودين من حط بذرتك في بطني، ورقدته في تربته، لن أشتري لك معجون الأسنان إياه يا بشت. لم أكن أعرف معنى كلمة بشت، لكني عرفت أنها صارت على آخرها مني، ولو كنا في البيت لكنت قد تلقيت عدة ضربات بالشبشب على مؤخرتي، وهو ما تفعله عادة بعد كل مرة تشتمني فيها بكلمة بشت. كنت قد طلبت منها أن تشتري لي معجون أسنان، كالذي كنت أشاهده في إعلانات التلفزيون، فطالما تمنيت أن تكون أسناني بيضاء، تبرق مثل أسنان الولد الذي يظهر في الإعلان، وقد وعدتني بأنها ستلبي طلبي لو فاض معها فلوس من فلوس الأكل والشرب، ولكن ها هي تحاول إغاظتي وحرق دمي. أعلنت ثم وضحت: طظ في معجون الأسنان. أنت في دنيا غير الدنيا، ظنك إن أنا هو أنا كما كنت قبل الثورة. لا أنا لا يهمني معجون الأسنان إياه ولا ألف معجون أسنان غيره. نظرت إليها وأنا أقول ذلك غاضباً، لكني سرعان ما شعرت بالأسف والحزن، لأنها بدت لي تعيسة وعلى وشك البكاء. شعرت بالشفقة عليها، فقلت ويدي تستسلم لقبضتها: تعرفي، بعد الثورة، صرت أحلم بأننا، أنا وأنت، صرنا ساكنين في شقة حلوة، نظيفة، داخلها الكهرباء والمياه، وفيها حمام يخصنا وحدنا، ويكون عندي كومبيوتر أذاكر وألعب ألعاب مسلية عليه، وأن منطقة سكني وسكنك مختلفة عن عيشتنا في منطقة بطن البقرة، بكل وسخها وقرفها وزحمتها ودخان المسابك فيها... آه انسي حكاية معجون الأسنان وفكري في أمور أهم. شعرت بأنها هدأت فجأة لأنها تركت يدي تفلت من يدها، واستمرت تسير صامتة، وتنظر إلى بعيد حتى أوشكنا أن نصل قرب البيت، وكنت أظن أنها كانت تفكر بقوة فيما قلته لها.