الحديث عن النصر وعن الهزيمة، في إحدى المعارك السياسية أو العسكرية، ليس عبارة عن كلام إنشائي يدبجه المتحدث عنهما كيفما شاء، وكيفما اتفق، من دون ضوابط موضوعية مادية ومنطقية وفي كل زمان ومكان... بل هو تعبير عن واقعين ملموسين، في الحالتين معاً، تتحكم بصنعهما عوامل كثيرة، بعضها ذاتي وبعضها موضوعي، وتدل عليهما علامات لا تخطئ وتترتب عليهما نتائج ومضاعفات تفرض على المنتصر والمهزوم التعامل معها وفق إكراهاتها ومنطقها هي، وليس كما شاء التعامل معها وفق إرادة مطلقة مزعومة. ولأن الانتصار والهزيمة مفهومان يخضعان لقانون النسبية الذي يتحكم بكل ظواهر الواقع الإنساني، فإن استحضار الظروف المادية والمعنوية التي يندرج فيها الحديث عن الانتصار والهزيمة والنجاح والفشل، أمر يساعد على عدم التحامل على الواقع ومحاولة تطويعه ليتلاءم مع تصورات المتحدث الإيديولوجية المسبقة. من هذا المنطلق النسبي، ليس كل انتصار تكتيكي انتصاراً استراتيجياً وليست كل هزيمة تكتيكية عنواناً للهزيمة الاستراتيجية، إذ كثيراً ما يكون عدم استثمار ظرف الانتصار مدخلاً لحصاد الهزيمة النهائية، تماماً مثلما أن استخلاص دروس الهزيمة التكتيكية قد يكون سبباً في كسب المعركة الإستراتيجية والانتصار على الأعداء. وهذا يعني أن كلاً من تلك الحالات تظل على الدوام جزئية وموقتة ويمكن في حالات بعينها أن تنقلب إلى ضدها على كل المستويات بحيث يكون الانتصار الجزئي التكتيكي مدخلاً إلى الهزيمة الإستراتيجية الماحقة أو تنقلب الهزيمة التكتيكية، على العكس من ذلك، إلى العمل المؤسس للانتصار المحقق. وهذا ما يضفي على المعارك السياسية والعسكرية ديناميكيتها المتواصلة بتواصل فصولها وتداخلها في كثير من الأحيان. لنضرب لهذه المسألة مثلاً بكيفية تعاطي حزب الحرية والعدالة الذي أسسه"الإخوان المسلمون"في مصر، في معرض خوض العراك السياسي بعد خلع الرئيس حسني مبارك. فهو بليغ في خصوص ما نرمي إلى البرهنة عليه في هذا المستوى من التحليل، ونكتفي هنا بالإشارة إلى مسائل دالة في هذا المضمار. لقد خاض"إخوان"مصر معركة سياسية كبيرة من دون أن تتوافر لهم عوامل النجاح فيها، كتنظيم مستقل. بل كان عليهم منذ البداية اعتماد وسائل وهي هنا أصوات غيرهم من القوى السياسية المصرية التي لا تشاطرهم الرأي، إلا على هذا المستوى البسيط الذي مثّله الوقوف في وجه الفريق احمد شفيق في الانتخابات الرئاسية مخافة فتح الباب أمام أي عودة محتملة للحزب الوطني، أو ما تم نعته آنذاك بفلول نظام مبارك. "الإخوان"لم يؤدوا الدور الرئيس في حركة 52 يناير بل كانوا يراهنون على التوصل إلى حل من خلال المفاوضات مع اللواء عمر سليمان، في الوقت الذي قاطعت القوى الأساسية في الثورة الحوار الذي نادى به نائب رئيس الجمهورية السابق لأنها لم تكن ترى أي بديل عن تحقيق مطلب تنحي مبارك ورحيل نظام الحزب الوطني. قال"الإخوان"في البداية إنهم لن يترشحوا للرئاسة لاقتناعهم بأنهم سيحصدون الغالبية في البرلمان ومجلس الشورى، مخافة أن يتهمهم بعضهم بالرغبة في الاستحواذ على السلطة والتحكم بكل مفاصلها. غير أنهم ترشحوا خلافاً لما هو منتظر وما وعدوا به الشعب المصري علناً بلا مواربة، الأمر الذي أثار الشكوك في نياتهم الحقيقية، وهو ما أدى أيضاً إلى انشقاق احد قادتهم الأساسيين، الدكتور كمال الهلباوي، ولهذا السبب بالذات. وعندما قدم"الإخوان"محمد مرسي مرشحاً، كان ذلك على سبيل الاحتياط، لأن الأهلية القانونية والسياسية لمرشحهم الأساسي خيرت الشاطر مطعون فيها. تعاقدوا مع قوى الثورة في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية لضمان الفوز في مواجهة الفريق أحمد شفيق، إلا أنهم لم يلتزموا تعهداتهم، بعدما أُعلِن فوزهم فاستفردوا بالسلطة ودخلوا في عملية"أخونة"لمؤسسات الدولة تعدّ سابقة في تاريخ مصر. فكر"الإخوان"في الاستحواذ على كل مغانم المعركة قبل التفكير في العمل على كيفية استتباب فوزهم، ففرّطوا بكل ما يشكل حماية لاستسهالهم النصر ربما، أو لاستخفافهم بقوة خصومهم السياسيين وإلغائهم من معادلات الصراع. استعدى"الإخوان"القضاء الدستوري وهو قضاء عريق في مصر، كما استعدوا القضاء والعدالة بوجه عام، خصوصاً بالإعلان الدستوري الذي أراد به مرسي وضع نفسه فوق كل المؤسسات التي عليها أن تظل تحت رحمته، في سير عملها وفي أحكامها. فماذا يعني كل هذا؟ يعني بكل بساطة أن"الإخوان"لم يستثمروا انتصارهم التكتيكي بالطريقة المثلى المتاحة، فحصدوا الفشل في المواجهة الحاسمة مع قوى الثورة ومع المجتمع المصري الذي استعاد المبادرة فنزل إلى الشارع لإملاء قراره على حكم المرشد الذي يسيّر محمد مرسي كما يشاء، وفي الوقت الذي يشاء. كان يمكن تحويل الانتصار التكتيكي الذي تحقق بانتخاب مرسي رئيساً، إلى انتصار استراتيجي، لو التزم مرسي مفردات التوافقات التي تحققت بين جماعته وقوى الثورة، على مستوى إقامة شراكة حقيقية وبناء مؤسسات تلك الشراكة في البرلمان ومجلس الشورى، في الحكومة والهيئات التنفيذية المرتبطة بها. غير أنه لم يفعل بل أتى من الآثام السياسية ما سرّع فقدانه الشرعية وزمام المبادرة، فكشف عورات مشروع غير سوي لتنظيم"الإخوان"، وحطم أسطورة إمكانية ممارستهم السياسة كغيرهم من الأحزاب. وهم ليسوا في الواقع كغيرهم من الأحزاب السياسية التي يفترض فيها أن تؤمن أول ما تؤمن بالتعددية السياسية التي سمحت لها بالوجود، وتلتزم الديموقراطية التي قد تمنحها مكانة وازنة في قمة السلطة، كما قد تعيدها وفق إجراءاتها الخاصة إلى مقاعد المعارضة في المؤسسات الدستورية.