لا أحد يهتم لمشاهدة القنوات التلفزيونية الإيرانية الحكومية باستمرار، فبرامجها الترفيهية محدودة جداً، إلا في حال بثّ حدث رياضي أو خبر عاجل هام. واللافت أن التنقل بين القنوات التلفزيونية الحكومية الست سيريك أنها كلها متشابهة. فترى على إحدى القنوات شخصاً يعتمر عمامة سوداء ويتحدّث عن الفقه، فيما يتطرّق شخص على قناة أخرى، يعتمر هذه المرّة عمامة بيضاء، إلى موضوع السينما الإسلامية، مع العلم بأنّ قناة أخرى تبثّ من قاعة البرلمان، حيث يجلس رجال الدين بعماماتهم البيضاء والسوداء جنباً إلى جنب، فيما تصوّر قناة أخرى مجموعة أشخاص يحتفون بذكرى وفاة شخصية دينية، وهكذا دواليك. ولا شكّ في أنّه في ظلّ وضع من هذا القبيل، سيستحوذ موضوع خارج عن المألوف على انتباه الإيرانيين ويدفعهم إلى مشاهدة القنوات التلفزيونية المحلية، وفي هذه المرّة، الموضوع هو الانتخابات. معروف أنّ إيران هي بلاد الشعر، وأنّ شعبها الذي يتحلى بحس فكاهة عالٍ يتحيّن الفرص لإطلاق النكات على الحكّام وللسخرية منهم. وهل من فرصة أفضل من مشاهدة المناظرات التلفزيونية بين المرشحين للانتخابات؟ اجتمعت العائلات يوم الجمعة، لمشاهدة أوّل جولة مناظرات رئاسية، بحضور المرشحين الثمانية. وتحوّل نقاش دام أربع ساعات إلى امتحان، أكثر من كونه تبادل آراء. فكانت المناظرة بمثابة اختبار يقيس مستوى ذكاء المرشحين ومعلوماتهم العامة. وفجأة، ظهر هذا التوجّه الجديد في المناظرات، ليسلّي أمّة بكاملها، ويمنحها أوّل بأوّل موضوعاً يسمح لها بالسخرية من النظام ومن جميع المرشّحين فيه. ولا شكّ في أنّ بعض المرشحين، أمثال الدكتور روحاني، والدكتور عارف، ورضائي، احتجوا على خلفيّة السخرية من المرشحين الرئاسيين في هذا النوع من المناظرات. إلا أنّ سيل الرسائل النصية فاض في جميع أنحاء البلاد. وبالفعل، استمتع الناس كثيراً بأوقاتهم بعد ظهر يوم الجمعة! وبصرف النظر عن الجزء المسلّي من الموضوع، قد تقضي الخطة الأولية بعدم السماح لأيّ من المرشّحين بالتحدّث بمفرده، وبمنعهم عن إثارة حماسة الشعب. ويسعى النظام جاهداً لتفادي دعم الشعب لمرشح معيّن وانطلاق اشتباكات مع قوى الأمن، على غرار ما حصل منذ أربع سنوات. ويبدو الأمر صحيحاً، لا سيّما أنّ العيون شاخصة على الدكتور حسن روحاني والدكتور محمد رضا عارف، وهما مرشحان شبه إصلاحييْن، كان أداؤهما حسناً ومتحدّياً النظام القائم، على رغم الوقت القصير الذي حصلا عليه للتحدث علناً. وتكلّم روحاني بصورة غير مباشرة عن موسوي وكروبي، الزعيمين الإصلاحيين اللذين وُضعا قيد الإقامة الجبرية منذ سنتين، معتبراً أنّ توقيفهما تمّ من دون محاكمة وأنّ التهم الموجهة إليهما تفتقر إلى العدل والإنصاف. حتّى الآن، لم تتّقد حماسة من شأنها إثارة اهتمام الناس ليصوّتوا لأيّ كان. وقبل أقل من أسبوعين على الانتخابات المقرَّرة في 12 حزيران يونيو، تعذّر على المجتمع المصاب بالشلل إخبارنا بكيفية تحقّق"الملحمة السياسية"التي أرادها المرشد الأعلى. في العادة، لا يطلق آية الله خامنئي أيّ تصريح، ما لم يخطّط جيداً لما يريده ويستعدّ له مسبقاً. ففي حال أراد أداء هو أقرب إلى الملحمة السياسية في هذه الانتخابات، بمعنى أن يتم تسجيل مستويات مشاركة قصوى في أوساط الشعب، يجب أن يتوافر عنصر قادر على تشجيع 55 مليون ناخب مؤهّل للتصويت. ولكن، ما من أمر أكيد، وغالباً ما تحصل المفاجآت. وللتأكيد على ذلك، قرّر الشعب مقاطعة الانتخابات، وسط خيبته وإحباطه جرّاء ولايتَين للحكومة الإصلاحية برئاسة محمد خاتمي، والخيبة التي أصيب بها في العام 2005. يذكر أنّه قبل ثماني سنوات، لم ينفع تدخّل آية الله خامنئي للمصادقة على مشاركة المرشّح الإصلاحي - الدكتور معين - في الانتخابات. وبالتالي، أجريت جولة انتخابات ثانية مع مرشح غير معروف هو أحمدي نجاد والمرشح الذائع الشهرة هاشمي رفسنجاني. ومنذ ثماني سنوات، كان هاشمي يجسّد الشرّير بنظر الناس. فهرعوا للتصويت لأحمدي نجاد، بهدف إنقاذ أنفسهم من خطر هاشمي الذي روّج لنفسه كثيراً. ومن المعروف أنّ الإيرانيين قد يبدّلون رأيهم في غضون دقائق. ويطلق الناس على أنفسهم تسمية"حزب الرياح"، علماً بأنّ حزب الرياح هذا يغيّر وجهته بسرعة كبيرة وهو برهن ذلك بلا أدنى شكّ. وبات هاشمي رفسنجاني، الذي كان يُعتبر في الماضي شريراً، من خيرة الرجال اليوم، وقد يتحمّس الشعب غداً لأحد المرشحين، ويُحدث ما اعتبره خامنئي"ملحمة سياسية"، تنطوي على تلميحات لا نعرف مضمونها بعد. وإن لم ينسحب أي من هؤلاء المرشحين من السباق لمصلحة الآخرين، من المحتمل إجراء جولة انتخابات ثانية. وقرّر خامئني عدم التدخّل، وعدم إبداء أي اهتمام بأي من المرشحين الثمانية. فهو لا يريد الانحياز لأي طرف، لأنه يفهم أنّ الشعب حساس في الوقت الحالي، وقد يتصرّف بطريقة مغايرة. حتّى الآن، نجحت إدارة القنوات التلفزيونية الحكومية في تقليص الاحتكاك والحوارات المباشرة بين المرشحين، كي يبقوا جميعاً على قدم المساواة بنظر الشعب. وبعد ظهر الجمعة، سخرت العائلات الإيرانية من التقنيّة التي استخدمتها القنوات التلفزيونية الحكومية لإجراء المناظرة بين المرشحين الثمانية. ولكن، ما النتيجة التي سيؤول إليها هذا كلّه؟ من المقرر أن تجري المناظرة المقبلة يوم الأربعاء ، وينتظر الشعب ليرى ما إذا كانت ستشمل تفاعلات أكبر وتحاوراً بين المرشحين. منذ أربع سنوات، شاءت سخرية القدر أن تظهر الحماسة للانتخابات حين كشف المرشحون، بغضّ النظر عن هويّاتهم، عن سخافتهم خلال المناظرات. وأذكر أنني ضحكت كثيراً، وكأنني أحضر أفضل مسلسل كوميدي في حياتي، عندما تواجه موسوي، وأحمدي نجاد، وكروبي، ورضائي، مباشرة على الهواء. أمّا البرنامج المضحك الأكبر، الذي شكّل ظاهرة في الجمهورية الإسلامية، فهو السماح للمرشحين بتحدّي بعضهم بعضاً في العلن بهذا الشكل. لقد ضحكنا كثيراً منذ أربع سنوات، إلا أننا بكينا كثيراً أيضاً حين تعرّض الناس للضرب، وجرّوهم في الشوارع، فيما قُتل البعض منهم بعد أيام قليلة على هذه المناظرات التاريخية. ثمة مثل فارسي قديم يفيد بأنّ"من يضحك كثيراً يبكي طويلاً". وأنا بكيت طوال أيام، حين رأيت صور الشابة البريئة ندى آغا سلطان، التي قُتِلَت أمام كاميرات الهواتف الجوّالة. نحن بكينا، وبكى العالم معنا. ويقول مثل شهير آخر إنّ"النهاية سعيدة لملحمة الملوك"، في إشارة إلى ضرورة الانتظار وقراءة الفصل الأخير من ملحمة الفردوسي، لنرى إن كانت نهايتها سعيدة أم لا.