وقع أوباما في اخطاء تكتيكية. وأفدح أخطائه في أفغانستان انتهاج استراتيجية مكافحة التمرد"العراقية"في هذا البلد ثم العدول عنها وحزم الحقائب للانسحاب، من غير البحث عن حل ديبلوماسي للحرب. وأُوجه سهام الطعن إلى أبرز أركان سياسة أوباما الخارجية: بذل مساعٍ أقل وإحراز نتائج أفضل. فالرئيس الأميركي يقصر سياسته الخارجية على الحد الأدنى من القوة الأميركية. وهو لا يدافع عن المكانة الريادية للولايات المتحدة. والريادة هذه لا تعني احتلال الدول بل توسل نفوذ واشنطن أو قوتها الاقتصادية لردع نظام ما. وأوباما يتلطى وراء الرأي العام الأميركي، ولا شك في أن مواطنيه يشعرون بالتعب من الحرب، لكن مسؤولية الرئيس تقتضي أن يشرح لهم أهمية القضية السورية، والربيع العربي وقدرة بلاده على التأثير في سير الأمور من دون إنفاق بلايين الدولارات أو إرسال قوات برية. لكنه قال في مقابلة نشرتها مجلة"نيو ريببليك":"من أيْنَ لي قياس أهمية عشرات الآلاف من القتلى في سورية على مقياس سقوط نظيرهم في الكونغو"؟ ومفاد رسالته إلى الشرق الأوسط أن كفة المنطقة هذه في الميزان الأميركي تساوي كفة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. ويبدو أوباما منفصلاً عن العالم، غير آبهٍ بالسياسة الخارجية، والمؤشرات إلى ذلك كثيرة. في الأعوام الأخيرة، نشأت حركات كبيرة تطالب بإرساء الديموقراطية في منطقة لطالما اعتبرتها أميركا الأخطر في العالم. وهي منطقة بذلت الولاياتالمتحدة آلاف بلايين الدولارات سعياً في تشريع أبوابها أمام الديموقراطية. لكن أوباما وقف موقف المتفرج أمام الربيع العربي، كأنه يقول للشباب المنتفض"أنت متروك لأمرك فدبر حالك". ولم يبدِ الاستعداد لإنفاق ما يساوي كلفة شهرين من الحرب في العراق أو أفغانستان لمساعدة دول الربيع العربي في سلك طريق الديموقراطية. وموقف أوباما لا نظير له في السياسة الخارجية الأميركية. فواشنطن مدت يد العون لأوروبا الشرقية والمكسيك والبرازيل والأرجنتين. وبين 1989 و1999، استثمر المجتمع الدولي مئات البلايين من الدولارات. ولم يبذل عشر المبلغ هذا لمساعدة دول الربيع العربي. ولكن، هل يرى أوباما أن مكانة مصر غير حيوية؟ ألهذا يتركها تنزلق إلى الفوضى؟ ومنذ 2011، صار مليون مصري عاطلين من العمل. من أين لنا توقع ازدهار الديموقراطية في مثل هذه الأحوال؟ وينظر كثر بعين الرضا إلى مآل الأمور في سورية. فأعداء أميركا، إيران و"حزب الله"من جهة والجهاديون، من جهة أخرى، يتقاتلون، لكن واشنطن ترى أن سورية ثانوية في سلم الأولويات. وأوجه الشبه كبيرة بين حساباتها في الحال السورية وحساباتها في الحال الأفغانية. فأميركا قررت في الحالين أنها في غنى عن الفوز بالحرب، ولا حاجة لإرساء السلام، ويسعها الاستدارة والرحيل أو مواصلة الطريق. ومثل هذا الحسبان بالغ الخطورة. فالنازحون من سورية يهددون استقرار تركيا ولبنان والأردن. وصاروا يشكلون في الأردن? وهو بلد متواضع القدرات الاقتصادية ولم يتلقَّ مساعدات دولية- حوالى خمس السكان. ولكن هل يسع أميركا ترك الأردن يتداعى من غير أن تحرك ساكناً؟ وفي أول عام من الأزمة السورية، توقعت واشنطن أن تُمنى إيران بهزيمة استراتيجية هناك. وافترضت أن سقوط بشار الأسد سريع. لكن وقوف أميركا موقف المتفرج في انتظار أن تُقوَّض قوة إيران و"حزب الله"في سورية، يهدد استقرار المنطقة كلها. وقد تظهر أعراض الوهن في الأردن قبل أن تبلغ إيران، أو في العراق قبل أن يصيب الوهن"حزب الله". ولم تشرح الإدارة الأميركية لمواطنيها أهمية مصالح بلادهم في سورية. ومثل هذا الشرح مكّن واشنطن من التدخل في كوسوفو، وغيابه غيّب دورها في رواندا. فقادة أوروبا وأميركا أبلغوا شعوبهم أن مصير أوروبا و"الناتو"هو المحك في البوسنة. وفي رواندا، لم تحرك أميركا ساكناً إزاء هول المجازر. فالدواعي الأخلاقية والإنسانية لا تحدو الدول على شن حرب. وإذا اقتصر وصف الأزمة السورية على طابعها لإنساني من غير تسليط الضوء على جانبها الاستراتيجي، بقيت الأمور على حالها. لا شك في محورية القضية الفلسطينية، لكن حوادث مصر وسورية قد تغير وجه الشرق الأوسط. فالنار بلغت سورية، وقد تطاول مصر. ويبدو أن أوباما يريد تحريك عملية السلام لكنه لم يلق بِثقله السياسي وراء الحل. فإسرائيل مسألة داخلية في أميركا. وحين زار إسرائيل، دعا الإسرائيليين إلى الضغط على حكومتهم من أجل السلام، عوض أن يتولى هو هذه المهمة. وحري بإدارته أن تسلّح المعارضة السورية أو أن تلوّح بتسليحها قبل المشاركة في مؤتمر"جنيف - 2". ويقتضي تغيير مسار الأمور شعور بشار الأسد بأن القوة الأميركية ضده. وسبق لريتشارد هولبروك أن روى لي طلبه من الرئيس بيل كلينتون الجلوس وجهاً لوجه مع ميلوسوفيتش وإبلاغه وهو ينظر في عينيه أنه سيقصف بلاده ما لم يوقع اتفاق دايتون. وفي البلقان ساندت القوة الأميركية الديبلوماسية. * محلّل وباحث صاحب" أمة العالم في غنى عنها... انحسار الديبلوماسية الخارجية الأميركية"، عن"ليبراسيون"الفرنسية، 1-2/6/2013 إعداد م. ن.