الانسحاب من العراق يطوي فصلاً أليماً من التاريخ الاميركي، وهو فصل المغالاة في الانتشار الامبريالي. والعراق الذي ينهشه الانقسام المذهبي والعرقي لا يسعه الانتصاب سداً في وجه إيران، على ما تشتهي أميركا. وإذا لم ينجح الغرب في حمل طهران على وقف مشروعها النووي، غرّد العراق خارج سرب الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، ودار في الفلك الايراني. وإثر حرب دامت نحو عقد من الزمن وأوقعت أكثر من مئة ألف قتيل، معظمهم من العراقيين، وتجاوزت كلفتها عتبة الألف بليون دولار، لم تخلف الولاياتالمتحدة وراءها نظاماً ديموقراطياً مستقراً في العراق الذي يتربع في المرتبة 175 من 178 دولة في سلّم الفساد المستشري. ولم ترتقِ الحرب هذه نواة إعادة هيكلة الشرق الاوسط. فأميركا أُنهِكت مادياً، وبددت"طاقتها"أو الجهد على ما لم تنعقد ثماره. وفي الاثناء، تسعى تركيا ورئيس خارجيتها"الخطير"، وفق وثائق"ويكيليكس"، وراء أهداف إقليمية خاصة بها لا تتطابق مع الاهداف الاميركية. وإسرائيل رفضت اقتراحات الرئيس الاميركي باراك أوباما لإطلاق عجلة مفاوضات السلام. ولم تمدد تجميد بناء المستوطنات 3 أشهر اضافية في مقابل تقديمات استراتيجية وازنة. والرئيس الفلسطيني محمود عباس تحدى الولاياتالمتحدة، وتجاهل التحذيرات بوقف المساعدات إذا طلب انضمام السلطة الفلسطينية الى الاممالمتحدة. والزعماء العرب يسخرون من سذاجة أوباما الذي يحسب أن في الإمكان إحباط الطموحات النووية الايرانية من طريق المفاوضات. والحق أن"الربيع العربي"هو صنو ارساء الديموقراطية ارساءً ذاتياً من الداخل، ورفض تواطؤ الولاياتالمتحدة مع المستبدين المحليين، ولفظ الديموقراطية المحمولة على أجنحة طائرات"أف 16". ولا يزال مستقبل المنطقة مبهماً. ولم تعد أمراً ممكناً إعادة الجنّي الى القمقم، وقمع الشعوب العربية وكمّ أفواه المطالبين بالعدالة والكرامة. والديبلوماسية الاسرائيلية متناقضة، إذ ترفض الحوار مع"حماس"، وتُقبل عليه مع الغالبية الاسلامية المصرية. ولا شك في أن ضعف الولاياتالمتحدة ساهم في عودة روسيا الى سياسات الحرب الباردة. فموسكو تحمي النظام السوري في أروقة الديبلوماسية من غضب المجتمع الدولي، وتكبح الرغبة الدولية في شلّ الاقتصاد الايراني. ويبدو أن روسيا على يقين من أن العقد الاخير وحربيه الفاشلتين قوضت مكانة أميركا في العالم. ويطعن الكرملين في نفوذ اميركا في آسيا الوسطى. ويرجح أن تأخذ واشنطن عبرة من دروس حرب العراق وحرب افغانستان، كما أخذت العبرة من حرب فيتنام، وأن تعدل، تالياً، عن توسل القوة العسكرية توسلاً شاملاً، وأن تستند الى القانون الدولي والأحلاف المتعددة القطب في إدارة علاقاتها بالانظمة المعادية. ولن تقصر واشنطن أولوياتها بعد اليوم على الشرق الاوسط فحسب، بل ستهتم بشؤون مصالحها الحيوية في مناطق أخرى. والاغلب على الظن أن يتعاظم التنافس الاقتصادي بين أميركا والصين من غير أن تفرّط بكين أو واشنطن بمصالحهما في المحيط الهادئ. وقد يساهم الامل ببروز نظام ديموقراطي في روسيا في تجاوز الرضوض الموروثة من الحرب الباردة وتحريك عجلة التعاون الروسي مع الغرب. وحريّ بالاميركيين التخفف من الحذر في التعامل مع أوروبا. فالعلاقات الوثيقة بالاتحاد الأوروبي تساهم في نشر القيم الغربية في العالم. والميل الى الانعزالية عقيم لا ترتجى فائدة منه، وهو يخالف الصورة التي تصبو الولاياتالمتحدة إلى تجسيدها: أمة تحمل رسالة سامية الى العالم. لكن إرث الحربين الاخيرتين الثقيل والرهيب يحمل اميركا على الانصراف الى شؤونها الداخلية. وأثرُ إرساء النموذج الأميركي للقوة اللينة، والحفاظ على التفوق الاميركي التكنولوجي، وتطوير البنى التحتية والنظام التعليمي وتقليص الإدمان على القروض الخارجية... الأثر هذا أبلغ من أثر أنجع الحروب الاميركية وانتصاراتها. * رئيس وزراء اسرائيلي سابق، عن موقع"بروجيكت سانديكايت"الدولي، 2/1/2012، اعداد م.ن.