لا شيء يُشبه هذه الحرب التي لا تهدأ بين الولاياتالمتحدةوالصين عبر شبكة الإنترنت، سوى"الحرب الباردة"في القرن العشرين التي خيضت على جبهات الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والجيوش التقليدية، بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي. ربما يجمع بين الحربين أيضاً أن كلمة"باردة"لا تنطبق على كليهما! وشهدت الأيام الأولى من أيار مايو الجاري بروزاً علنياً لأحد فصول هذه الحرب الإلكترونية، إذ نشر الكونغرس تقريراً مطوّلاً عن التهديد الشبكي الذي تمثّله الصين للولايات المتحدة، مُشدّداً على رعاية الحكومة الصينية هجمات شبكية لا تتوقف على مواقع إلكترونيّة حسّاسة تعود إلى شركات عملاقة ومؤسسات حكومية ومعاهد بارزة وجامعات في الولاياتالمتحدة. ووجّه التقرير أصابع الاتهام مباشرة إلى الحزب الشيوعي الصيني، بأنه خصّص أحد أذرع"جيش التحرير الشعبي الصيني"للقتال على مدار الساعة عبر الإنترنت، بهدف الحصول على معلومات استخباراتية أميركية، إضافة إلى وهو الأهم الوصول إلى معلومات علمية متقدّمة تشمل الصناعات والتقنيات المتقدّمة، والبحوث المتّصلة بها كافة. وبسبب القيمة العالية لهذه المعلومات، لم يتردّد البنتاغون في وصف ما يفعله"هاكرز"الصين، خصوصاً أولئك الذين يقول إنهم يعملون ضمن"الوحدة 61398"في الجيش الصيني، بأنه"أضخم عملية نقل للثروة في التاريخ". أنظر"الحياة"في 7 أيار 2013. ولم يتردد تقرير البنتاغون في القول إن الصين تلجأ إلى التجسّس للحصول على معارف وتقنيّات تمكّنها من تحديث جيشها. وللمرّة الأولى في العلاقات بين البلدين، تفرّد التقرير بالقول إن الصين تحاول اختراق الشبكات العسكرية الأميركية، وهو أمر شدّد البنتاغون عليه عبر تصريحات رسميّة أكّدت أنها المرّة الأولى التي تنجح فيها دولة في اختراق الشبكات الدفاعية الإلكترونية لأميركا. وأضاف التقرير أن المواقع الحكومية الأميركية مستهدفة باختراقات إلكترونية من قِبَل الصين وقواتها المُسلّحة، مبيّناً? ?أن الغرض الأساسي للاختراقات يتمثّل في الحصول على معلومات تستفيد منها الصناعات العسكرية الصينية، إضافة إلى واضعي الاستراتيجيات العسكرية والعليا في بلاد"العم ماو". ولاحظ التقرير أن اختراق الصين الشبكات الإلكترونية يبعث على القلق جدّياً، خصوصاً أن المهارات المطلوبة لهذه الاختراقات مماثلة لتلك اللازمة لشن هجمات على شبكات الكومبيوتر الحسّاسة في الولايات المتحدّة. وساوى التقرير عينه بين الهجمات عبر الإنترنت، وبين أعمال عسكرية متقدّمة وضخمة على غرار سعي بكين لتطوير طائرات"الشبح""ستيلث"Stealth المتقدّمة تقنياً، وبناء أسطول من? ?حاملات الطائرات لتوسيع نفوذها العسكري في المياه الدوليّة. شبكة لخبراء الأمن الافتراضي قبل أيام من صدور تقرير البنتاغون عن التطوّر في القدرات الاستراتيجية العسكرية للصين، وضمنها التسلّل الإلكتروني، تردّدت في أروقة الكونغرس كلمات مُشابهة عن الخطورة الاستراتيجية التي تمثّلها الصين في المواجهة عبر الفضاء الافتراضي. ففي شهادة مديدة أمام الكونغرس نشرها"معهد المشروع الأميركي"American Enterprise Institute، أعرب الاختصاصي في الأمن الإلكتروني مايكل مازا، وهو خبير في الأمن الاستراتيجي في المعهد، عن قناعته بأن هجمات الفضاء الافتراضي التي تشنّها الصين إنما تشكّل خطراً استراتيجياً لم تشهد له الولايات المتّحدة مثيلاً من قبل. ويزيد في أهمية كلمات مازا أنه درس وعاش طويلاً في الصين، قبل أن يعود إلى أميركا ليعمل في مجال الدراسات الاستراتيجية المتعلّقة بالفضاء الافتراضي، إضافة إلى الصين. وفي شهادته أمام الكونغرس، ربط مازا بين التقدّم الاقتصادي للصين وحروبها المتواصلة على الإنترنت، وهو أمر يتشارك فيه مع كثير من خبراء الاستراتيجية والإنترنت. وعلى غرار هؤلاء أيضاً، ربط مازا أيضاً بين تقدّم الصين اقتصادياً، وموقفها المتجاهل لمسألة حقوق الملكيّة الفكريّة، وكذلك دأبها على"سرقة"المعرفة والعلوم والتقنيات من دول كثيرة، خصوصاً أميركا. وكذلك ردّد رأياً رائجاً في أوساط أميركية متنوّعة، بأن الحكومة الصينية ترعى هجمات ال"هاكرز"على المواقع الحسّاسة في أميركا، رابطاً هذه الأمور بسعي الصين لاحتلال الصدارة في منظومة القوى آسيوياً، بل ربما عالميّاً أيضاً. وأشار إلى أن ما تحصل عليه الصين عبر الإنترنت يعزز سعيها لاستعادة أراضي"الصين التاريخية"، التي تشمل تايوان وأراضي أخرى وجزراً متنازعاً عليها في شرق وجنوب بحر الصين، إضافة إلى تعزيز تحكّمها بالخطوط البحرية في المحيطين الهادئ والهندي. ولاحظ مازا أن هذين المسطحين المائيين يضمّان حلفاء موقّعين على"المعاهدة الأميركية"كوريا الجنوبية، اليابان، الفليبين، تايلاند، وأستراليا البعيدة، وشركاء أمنيين ثابتين تايوان وسنغافورة، وأصدقاء جدد لأميركا، خصوصاً إندونيسيا، وهي الدولة الإسلامية الأولى في عدد السكان. ولاحظ أنه في هذه المناطق تتصاعد التوترات وتتفاقم الصراعات، ما يزيد احتمال أن تكون المكان الذي تتصادم فيه المصالح الأميركية والصينية مباشرة. واعتبر أن القدرات الإلكترونية للصين، خصوصاً ال"هاكرز"، تمثّل الرافعة الأساسية للقوة الصينية في هذا المعترك الشائك."استمر القادة الصينيون في العامين الأخيرين في الاستثمار المستدام في صواريخ"كروز"المتطوّرة، والصواريخ الباليستية التقليدية المتوسطة والقصيرة المدى، ونظيراتها المضادة للسفن، والأسلحة المضادة للصواريخ، والقدرات الفضائية السايبرية العسكرية التي تبدو مصمّمة لتمكين مهمات يسمّيها خبراء البنتاغون"منع النفاذ/ منطقة حظر"anti-access /area-denial، ويُشير إليها استراتيجيو"جيش التحرير الشعبي"بمصطلح"مكافحة عمليات التدخل"، وفق كلمات مازا. وكذلك اقتبس عن دان بلومنتال، وهو مدير"الدراسات الآسيوية في معهد المشروع الأميركي"Asian Studies at the American Enterprise Institute اقتراحاً قدّمه الأخير في وقت سابق، إلى وزارة العدل داعياً إياها للتدخل بشكل مباشر في لجم النشاطات التجسّسيّة الشبكية للصين، عبر تشكيل"شبكة الاختصاصيين السايبريين للأمن القومي"National Security Cyberspace Specialists. ونادى مازا بضرورة أن تُزوّد هذه الشبكة، التي برزت إلى الوجود فعلياً قبل فترة وجيزة، كي تتمكّن من جلب ومحاكمة مجرمي الفضاء الافتراضي، معتبراً أن ممارسة سلطات كهذه من شأنها أن تردع"هاكرز"آخرين، غير أولئك الذين رأى أنهم يحظون برعاية من الصين وحزبها الشيوعي. [email protected] ... وبكين ترمي بقفاز التحدي جاء الردّ الصيني على تقرير البنتاغون المشار إليه أعلاه، عبر كلمات قوّية بل فائقة الإثارة، وردت في صحيفة"الشعب"الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الحاكم في بكين."إمبراطورية التسلّل الإلكتروني"تلك هي الصفة التي أطلقتها الصين على أميركا في معرض ردّها على هذا التقرير الذي وضع هجمات"هاكرز"الصين عبر الإنترنت في مصاف التهديد العسكري المباشر لأميركا، مُطلقاً عليها وصف"التسلّل الإلكتروني". وبعد أن نفت بكين محتوى التقرير جملة وتفصيلاً، اتهمت أميركا بأنها تنثر بذور الخلاف مع الدول المجاورة لها عبر الترويج لوصم الجيش الصيني بأنه يمثّل تهديداً للدول الأخرى. وذكّرت بكين بأن واشنطن اعتادت أن تسوق تُهماً متنوّعة في وصف عملية التطوّر الطبيعي للقدرات الدفاعية للصين. وأضافت الصحيفة أن الولاياتالمتحدة تروج للخطر الذي يمثّله الجيش الصيني لتعزيز المصالح الداخلية لمجموعات اقتصادية معيّنة ولشركات السلاح التي رأت بكين أنها المستفيد الأول من هذا التقرير. ومن البيّن أن كلمات البلدين تعكس مدى تدخّل الإنترنت في قلب العمل الاستراتيجي للدول المعاصرة، كما يكشف أن التسلّل الإلكتروني بات الموضوع الاستراتيجي الأكثر أهمية وبروزاً في العلاقات بين البلدين العملاقين. وتحتل الصين المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي، ما يضعها في مصاف المنافس الأول لأميركا. وكذلك لم تتردّد تقارير استراتيجية صادرة عن أجهزة استخباراتية رئيسية في أميركا، ك"الوكالة الوطنية للاستخبارات"، في وصف الصين بأنها المنافس الأول لواشنطن في الأزمنة المعاصرة. المُنافِس المُتسلّل استطراداً، يبدو أن الصراع في الفضاء الافتراضي للإنترنت يترك تداعيات على أمدية شتى، وضمنها الفضاء الكوني. إذ أعلن آشتون كارتر نائب وزير الدفاع الأميركي أن الجيش أطلق برنامجاً لحماية الأقمار الاصطناعية التي تعمل ضمن الأمن القومي الأميركي، يتضمّن طُرُقاً للتصدي للقدرات الفضائية لخصوم أميركا. وأوضح كارتر أن الولاياتالمتحدة أعدّت خططاً لمواجهة ضربات لأقمارها الاصطناعية الأمنية، تتضمّن احتمال العمل من دون اللجوء إلى هذه الأقمار. والمعلوم أن الأقمار الاصطناعية تقدّم دعماً لوجستياً متواصلاً للأعمال العسكرية الأميركية كافة، وضمنها نقل الإنترنت فضائياً، ما يجعل العلاقة بين الحرب الافتراضية وصراعات الفضاء أشد تعقيداً. وكذلك لفت كارتر إلى أن هذا البرنامج مُدرج ضمن موازنة أميركا للعام المقبل، معتبراً أنه برنامج يكفل منع منافسي أميركا من استهدافها في الفضاء الخارجي للكرة الأرضية. وفي تقرير البنتاغون المُشار إليه آنفاً، أورد خبراء البنتاغون تفاصيل كثيرة عن تطوّر قدرات الصين في مجال أسلحة الفضاء والقتال فيه، مُشيراً إلى أن بكين وصلت إلى مرحلة تستطيع التأثير فيها في قدرات خصومها في الفضاء واستعماله عسكرياً. وفي وقت سابق، استهدفت الصين أقماراً اصطناعية أميركية لم تكن مؤثرة، عبر صواريخ متقدّمة موجّهة بالليزر. هل حصلت الصين على معلومات مكّنتها من توجيه هذه الضربة، باستخدام الإنترنت وباختراق مواقع حسّاسة لخصمها الأميركي؟ سؤال تصعب الإجابة عنه، لكن ليس عسيراً القول إن صنع هذا النوع المتقدّم من الأسلحة وتوجيهها، يحتاج إلى معرفة متقدّمة في المعلوماتية والإنترنت والاتصالات المتطوّرة، إضافة إلى علوم الصواريخ.