على رغم عدم صدور الوثيقة الجديدة للأمم المتحدة عن حماية النساء من أشكال العنف كافة في شكلها النهائي بعد، وعلى رغم عدم احتوائها على أي مضمون جديد مقارنة بما سبق من مجهودات في هذا الإطار منذ السبعينات وحتى الآن، لا يمكن إغفال ردود الفعل القوية والمختلفة حول مسودة الوثيقة، بل وتعدد الأطراف المتنازعة حول أهلية المنظمة الدولية لإصدار وثيقة جديدة في سياق مشتعل عربياً حول حماية المرأة ضد الأشكال المختلفة من العنف. يظهر هذا التوتر جلياً بالذات في مصر وتونس، حيث بدأت الغالبيات الإسلامية المنتخبة في الحكم، فاتحة سياقاً من التوجس بين الناشطات النسويات وتاركة العنان لبعض النشطاء الإسلاميين أو المأجورين في التعنيف والتحرش بالنساء بغية ترويعهن وإبعادهن من مناطق التظاهر والاعتصام. يأتي مشروع الوثيقة إذاً في سياق استقطابي حاد لم تشهده مصر وتونس من قبل، فبعد تسيّد ثنائية المرجعية الدولية/ المرجعية الثقافية الخصوصية منذ قمتي نيروبي 5891 وبكين 5991، نلحظ ظهور ثنائيات جديدة تطرح في شكل أكثر صراحة عدم تواؤم المرجعيات الحقوقية الدولية والمرجعية الإسلامية، وذلك على رغم التزام مشروع الوثيقة الشق الخاص بالحماية من العنف وعدم تعرضها للقضايا الخلافية المعروفة عن مفاهيم القوامة والحقوق وأحكام الميراث. كما نلحظ في كل من مصر وتونس تدافع أطراف وطنية، سواء حزبية أو عاملة في حقل حقوق الإنسان، في التعليق سلباً أو إيجاباً على هذه المبادرة التي أطلقتها منظمة الأممالمتحدة. فهل يعكس تعدد دوائر الجدل غيرةً أكبر على الخصوصية الإسلامية؟ الإجابة بنعم لا بد من أن تستتبعها إجابات أخرى لا تقل أهمية. فمع تبوء عدد من القوى الإسلامية سدة الحكم أو تزعمها دور المعارضة في كل من مصر وتونس وليبيا واليمن وسورية، أصبح من الجلي بدء مزاحمة المرجعية الإسلامية للمرجعيات الوطنية كإطار محدد لماهية الخصوصية الثقافية على الصعيد الدولي، كما أصبح من المهم تحديد من هي الأطراف المخولة بالتحدث باسم تلك الخصوصية في المحافل الدولية في سياق تصاعد القوى الإسلامية سياسياً. ولكن هذا ليس إلا جزءاً من الصورة قيد التشكل. فبالتوازي مع السجال حول مشروع الوثيقة في كل من مصر وتونس، سارعت الأحزاب المسماة بالمدنية الى إعلان مواقفها المؤيدة للمبادرة وتعدى الأمر التأييد الكتابي عبر البيانات المقتضبة إلى التعبئة الإعلامية، بل الميدانية والشعبية أحياناً أخرى، لتسجيل النقاط ضد القوى الإسلامية الحاكمة وما تظهره من عجز أو إهمال لهذا الملف المهم من التزامات الدول العربية دولياً. كما اهتمت غالبية الأحزاب المسماة بالإسلامية المستنيرة باتخاذ موقف وسطي يحاول التوفيق بين الالتزامات القانونية والأبعاد الثقافية، مشيرة إلى انفراد مؤسسة الأزهر بحق تحديد الموقف من هذه التعهدات الدولية حسماً للصراع وتفادياً لتصعيد الاستقطاب الهوياتي الذي تمتزج فيه المرجعية الدينية بالميراث المابعد الكولونيالي المتحفز ضد كل ما هو غربي. من جانب آخر، انقسم المجتمع المدني بمؤسساته ومنظماته وحركاته الاجتماعية، للمرة الأولى حول"أهلية"المنظمة الدولية في تصدر معسكر حماية النساء، وظهر فاعلون جدد ينادون بتجذير حقوق المرأة محلياً، كخطوة مركزية في استراتيجية الحركات النسوية العربية وتأكيد عدم ارتباط الدعوية باسم حقوق النساء، بالأهداف الألفية للتنمية، كما صاغتها المحافل الدولية كطريق مشترك للبشرية منذ مطلع الألفية، وبغض النظر عن مستويات التنمية أو طبيعة نظم الحكم في هذا البلد أو ذاك. ويشار، هنا، إلى تنامي تيار جديد بين الناشطات النسويات الشابات في كل من مصر وتونس يحاول الابتعاد من الدعم الغربي للتحركات النسوية، والتي طالما سادت أثناء مرحلة النظم السلطوية منذ السبعينات من القرن الماضي، جاعلة من حقوق المرأة أحد مؤشرات الدمقرطة والتنمية الإنسانية. هكذا ظهرت على السطح ثنائية جديدة ضمن المجتمعات المدنية المصرية والتونسية، بل الحركات النسوية كقطاع محوري فيها: ثنائية تعكس روح ما بعد كولونيالية ولا تريد التماهي مع الخطاب الحقوقي العالمي بصدوره من المركز الدولي المهيمن اقتصادياً وسياسياً، كما لا تقبل الانضواء غير المشروط تحت مظلة المرجعية الدينية الإسلامية. هنا، لا بد من الإشارة إلى أن هذه الثنائية الجديدة تقسم ولو مرحلياً الناشطات النسويات إلى شقين، أحدهما يراهن على عولمة ملف حماية المرأة والثاني يرى في تكريس محلية القضية فرصة ذهبية لتأكيد"نضالية"الناشطات النسويات في إطار سياق"الربيع العربي". إن تنامي حملات مواجهة التحرش والعنف ضد الناشطات على المستوى القومي والمحلي والتعبئة الجماهيرية لتأكيد حق النساء في التحرك والقيادة في المجال العام العربي، يفتح بقوة وعن حق فصلاً جديداً من تجذير العمل النسوي لتحرير المرأة. وحمايتها. هذه الجهود لا تقف فقط في مواجهة الأحزاب الإسلامية وخطابها المحافظ حول حقوق أو حدود دور النساء في المجال العام، وإنما تنازع أيضاً المنابر الدولية في تصدر المعسكر المدافع عن المرأة في إطار منظومة الإصلاح الديموقراطي والتي أنتجتها المنظمات الدولية بالتعاون مع النظم السلطوية والمراكز الاقتصادية الدولية والنخب النسوية منذ أربعة عقود. إنها - وعن حق - إحدى ثمار عصر الثورات العربية التي تخوض حروبها باسم النساء العاديات، العاملات والصابرات والمعنفات ضد كل أشكال الدمقرطة الزائفة دولياً ومحلياً. * كاتبة مصرية، عضو مبادرة الإصلاح العربي