مقارنة بدول اللجوء الأخرى، يمكن القول إن أوضاع الفلسطينيين في سورية كانت الأفضل. لا يعود الفضل في ذلك الى النظام الاستبدادي القائم منذ أكثر من أربعة عقود، وإنما الى الشعب السوري الذي احتضن الفلسطينيين منذ لجوئهم عام 1948، والى القانون الرقم 260 الصادر بتاريخ 10/7/1956 الذي أقره المجلس النيابي السوري بالإجماع ووقّعه آنذاك الرئيس السوري شكري القوتلي، وساوى بين اللاجئ الفلسطيني والمواطن السوري من حيث الأنظمة المتعلقة بحقوق التوظيف والعمل والتجارة. الأمر الذي ولّد تفاعلاً إيجابياً بين السوريين والفلسطينيين، على مختلف المستويات، لا سيما الاجتماعية والاقتصادية. وساعد في ذلك أن السوريين والفلسطينيين ينتمون الى بيئة اجتماعية وثقافية، تكاد تكون واحدة. استثمر النظام السوري القضية الفلسطينية باتجاهين: الأول خارجي، لتعزيز موقعه الإقليمي، والثاني داخلي، للحفاظ على ما تبقى من مشروعيتة الآخذة بالتآكل، نتيجة ممارساته الاستبدادية، وسياساته الاقتصادية التي أفقرت الشعب ودمرت الاقتصاد. من هنا، ونتيجة لموقف الشعب السوري المتعاطف مع الفلسطينيين وقضيتهم، لم يكن في إمكان النظام أن يلغي ما يمكن اعتباره امتيازات للفلسطينيين في سورية. مع ذلك، وعلى رغم كل ما ذكر، عانى الفلسطينيون بعض أشكال التمييز، حيث حرموا حق التصويت والترشح للبرلمان، وحيل بينهم وبين تسلّمهم مناصب رفيعة في الدولة، وقُيّدت حدود ملكياتهم العقارية مقارنة بالسوريين... إلخ. الأمر الذي يفسر ضعف شعور الفلسطينيين بالمواطنة مقارنة بالسوريين، وبروز نوع من العصبية الفلسطينية، التي ساهمت القوى الفلسطينية في تكريسها من خلال عزفها على وتر الخصوصية الفلسطينية والقرار الوطني المستقل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. كما ساهمت في تعزيز تلك النزعة سياسات النظام وممارساته، كارتكابه المجازر تل الزعتر، طرابلس... وإغلاقه جبهة الجولان في وجه المقاومة الفلسطينية، وتقييده النشاط السياسي للفلسطينيين على الساحة السورية، وممارسة مختلف أشكال القمع في حقهم. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى قيام النظام أوائل الثمانينات من القرن الماضي باعتقال حوالى خمسة آلاف ناشط من أبناء حركة فتح الذين اطلق عليهم اسم"العرفاتيين"، وقد أمضوا حوالى خمس سنوات في سجون النظام. مع اندلاع الثورة السورية، انخرط الكثير من الشباب الفلسطيني في التظاهرات، كما انخرط بعضهم في الجيش الحر، وقدموا مئات الشهداء والمعتقلين. مع ذلك، تميز موقف الفلسطينيين، ككتل مجتمعية كبيرة مخيمات من الثورة السورية في بداياتها، بالترقب والحذر، والتزام الحياد تجاه الصراع الدائر بين شعب ثار بعد طول كمون، ونظام خبر الفلسطينيون والسوريون بطشه وإجرامه ودمويته. من جانبه، وبالتعاون مع أتباعه من جماعة أحمد جبريل وغيرها، حاول النظام بشتى الوسائل، استمالة الفلسطينيين إلى جانبه، لكنه فشل في ذلك فشلاً ذريعاً. وعلى العكس، جرت الرياح بما لا تشتهيه سفنه. فتصاعد الثورة السورية واتساع رقعتها، ووصولها الى المناطق المتاخمة للمخيمات الفلسطينية، ومحاولات النظام زج جيش التحرير الفلسطيني في مواجهة مع الجيش الحر... كل ذلك جعل من الصعوبة بمكان بقاء الفلسطينيين خارج هذا الصراع. فانطلاقاً من وحدة الشعب والدم والمصير واحد واحد واحد/فلسطيني وسوري واحد انخرطت المخيمات في الثورة، واحتضنت اللاجئين السوريين الهاربين من جحيم النظام وممارساته الوحشية، واستقبلت الجرحى، وقدمت كل أشكال الدعم الإغاثي. فكان رد فعل النظام أن انتقم منها شر انتقام، مظهراً للعالم، زيف ادعاءاته حول المقاومة والممانعة، حيث لم يتوقف عن قصف المخيمات بالمدافع والصواريخ والطائرات. الأمر الذي أدى إلى سقوط مئات الشهداء والجرحى، وتدمير الكثير من البيوت، ونزوح عشرات الآلاف من سكان المخيمات. وقد انقسم الفلسطينيون، من حيث وجهة النزوح إلى فئتين: الأولى لجأت إلى المناطق السورية الأكثر أمناً، والثانية غادرت إلى لبنان ومصر والأردن. في هذا السياق، لم تختلف ظروف حياة اللاجئين الفلسطينيين في الخارج، عن ظروف حياة السوريين، لكنْ كانت لهم مشاكل اضافية، كصعوبة الحصول على الفيز والاقامات. صحيح أن سكان المخيمات خليط من الفلسطينيين والسوريين يشكل السوريون نصف تعداد مخيم اليرموك في دمشق الذي يعتبر المخيم الأكبر في العالم، إلا أن للفلسطيني حكايته الخاصة مع المخيم. فهو، بمعنى من المعاني، أحد مكونات الهوية الفلسطينية. وهو، في نظر كثيرين من أبنائه، المكافئ الرمزي للوطن المفقود. وبغض النظر عن صوابية الفكرة من النواحي السياسية والعسكرية والإنسانية، فإن تلك الرمزية للمخيم، ربما، تفسر، صعوبة تقبل الفلسطينيين مسألة الخروج منه، والدعوات التي أطلقها الناشطون لبقائهم في المخيم، وعودة من نزح منهم. * كاتب فلسطيني