يبدو أن بنيامين نتانياهو لن يقع في الخطأ نفسه مرة بعد مرة ولا يأخذ الدروس والعبر من التجارب المريرة التي واجهته ولا يتعظ من مسلسل الفشل الذي مُني به. لكن الأكيد أنه قدم للعرب خدمات كبرى من حيث لا يدري ولا يريد عندما كشف عن وجه إسرائيل القبيح وعرّى النظام الصهيوني ووحد الرأي العام العالمي ضد التطرف والتعصب والمغالاة في القمع والإرهاب وإثارة الأحقاد ورفض الاستماع للغة العقل ومنطق الحوار ونداءات السلام. هذه الخدمات جاءت كهدية ثمينة للعرب، وحققت ما لم يحققوه على مدى السنين الأخيرة لأنهم يعيشون في غيبوبة ويتلهون بحروبهم وأزماتهم وتقوقعهم وإمعانهم في إعادة القضية الأم، وهي قضية فلسطين، إلى أسفل قائمة الاهتمامات فيما أصحاب القضية و"أم الصبي"كما يقولون غارقون في خلافاتهم وتشرذمهم وتأجيلهم للمصالحة المصيرية الرامية لإنهاء آفة التقسيم بين الضفة الغربية وقطاع غزة وبين"فتح"و"حماس". أما سقطات نتانياهو فهي كثيرة لم يتعلم منها ولا من انعكاسات أخطائه الكارثية على إسرائيل وعليه شخصياً كمسؤول وكشخص ينفث الكراهية والأحقاد. وعلى رغم الصفعات التي تلقاها من الداخل والخارج، فإنه يعود في كل مرة ليمارس الأخطاء ذاتها ويزداد غلواً وتطرفاً وتزداد معه عزلة إسرائيل وعزلته. الصفعة الأولى تلقاها في ولايته الأولى بعدما جاء على حصان التطرف الذي اغتال رئيس الوزراء السابق اسحق رابين وبذل جهوداً مضنية لضرب مسيرة السلام ونسق اتفاقات أوسلو مع الفلسطينيين، فقد اتضحت صورة المعارضة في الداخل وحوسب على أعمال فساد قام بها كما فضحت زوجته المشهورة بتعجرفها وتعنيفها لمربية أطفالها. وقبل أن يتلقى الصفعة الثانية من الناخب الإسرائيلي الذي اسقطه شر سقوط، حقق"إنجازاً"كبيراً تمثل في عزلة إسرائيل ومعاداة العالم بأسره لممارسات نتانياهو وتطرفه مع حزبه الليكودي وتحالفاته المريبة مع الأحزاب المتطرفة بخاصة أن الشعب الفلسطيني استطاع كسب الرأي العام العالمي من خلال انتفاضته السلمية المجيدة ثم عبر جنوحه للسلم بموافقته على السلام مع إسرائيل عبر اتفاقات أوسلو على رغم المقالب التي تحتويها والتنازلات المؤلمة التي قدمت وتجاهلت الكثير من الحقوق المشروعة. إلا أن الصفعة الكبرى جاءت من الولاياتالمتحدة عندما تم تجميد ضمانات القروض بقيمة 10 بلايين دولار وإعلان وزير الخارجية السابق جيمس بيكر: ان الإسرائيليين يعرفون أرقام هواتفنا إذا أرادوا الاتصال رداً على الممارسات الإسرائيلية وتمرد نتانياهو و"ليكوده"على واشنطن وعرقلته جهود السلام. ولولا بعض الممارسات الفلسطينية وبينها العمليات الانتحارية التي جلبت الويلات على الفلسطينيين، قبل الإسرائيليين، لما عاد نتانياهو إلى السلطة، ولولا تفجيرات نيويوركوواشنطن لما أعطيت إسرائيل الضوء الأخضر للتنكيل بالفلسطينيين ونسف الاتفاقات والمضي في بناء المستعمرات الاستيطانية ولما ازداد انحراف الإسرائيليين نحو اليمين المتطرف. ولكن نتانياهو مضى في غيّه في ولايته الثانية، فأمعن في تحدي الفلسطينيين وعرقلة أي جهد أميركي للسلام حتى تبين أنه لم يأت إلى الواجهة إلا لمواجهة الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي كان ينوي فتح صفحة جديدة مع العرب والمسلمين والسعي لتحقيق السلام في الشرق الأوسط. فقد عمد المتطرفون إلى وضع العصي في دواليب إدارة أوباما وتسريع خطوات الاستيطان ومحاربتها في الداخل والخارج والتآمر مع المعارضين وعرقلة أي قرار رئاسي إضافة إلى الضغط الاقتصادي والتركة الثقيلة التي ورثها الرئيس الأميركي على كل الصعد. وهكذا مضت ولاية أوباما الأولى وهي مكبلة اليدين، تائهة بين النيات والأفعال وبين الإرادة والصعاب، فيما نتانياهو والأحزاب المتطرفة لم يوفروا فرصة إلا واستغلوها لإذلال الرئيس وإظهاره بمظهر العاجز إلى أن حانت لحظة التجديد للولاية الثانية، فإذا برئيس الوزراء الإسرائيلي يكشّر عن أنيابه ويعلن الحرب العلنية ضد اوباما بالوقوف إلى جانب منافسة ميت رومني. لكن طابخ السمّ آكله، فقد ارتد السهم إلى صدر نتانياهو، وتحول كيده إلى نحره عندما نجح أوباما في الوصول مظفراً إلى البيت الأبيض فيما هو يتلقى صفعة مدوية من جانب الناخب الإسرائيلي الذي خذله ووضعه في موقف حرج لن يستطيع معه التمتع بحرية الحركة ولا بالقدرة على اتخاذ القرار. وصحيح أنه فاز مع الأحزاب المتطرفة، لكنه فوز بطعم الخسارة، كما قيل، ولهذا فهو سيضطر الى تجرع السم بالتحالف مع خصومه من الوسط والرضوخ لإملاءات المتطرفين، ما يدفعه حتماً إلى التراجع إلى الوراء والاستعداد لجولة انتخابية مبكرة لا مفر منها خلال أشهر قليلة. وما ينتظره في الداخل من مصاعب، سيلاقيه في الخارج وبصورة خاصة في الولاياتالمتحدة، لأن أوباما سيمارس صلاحياته في الولاية الثانية براحة واطمئنان بعيداً من هاجس التجديد. وهو يتفرغ الآن لمواجهة صلف نتانياهو وسمومه. وبدأ خطواته بتعيين جون كيري وزيراً للخارجية المعروف بصلابته وسعيه إلى المراهنة على تحقيق السلام في الشرق الأوسط وتحرك المسيرة والعجلة مهما كان رد فعل إسرائيل، وباشر فوراً مهامه بجولة أولى في المنطقة لجس النبض قبل زيارة أوباما المرتقبة ودراسة التحولات الكبرى فيها وهو الاطلاع على أدق التفاصيل من خلال عمله لأكثر من ربع قرن رئيساً للجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، من دون أن ننسى الملف النووي الإيراني الذي بات جزءاً من الحل ومن المشكلة. كما جاء تعيين تشاك هاغل وزيراً للدفاع ليشكل صفعة أخرى لنتانياهو واللوبي الصهيوني الذي حاول المستحيل لمنعه بسبب مواقفه الصلبة التي ترفض الضغوط وتتشدد في مواجهة إسرائيل. وتوالت الصفعات التي تستقبل نتانياهو في ولايته الجديدة، إضافة الى التعيينات الأميركية المهمة، عبر إعلان دول عدة كبرى وبينها روسيا وبريطانيا وفرنسا إصرارها على مسيرة السلام وإحياء حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية وتأكيد عدم شرعية الاستيطان الاستعماري في القدسوالضفة الغربية. وجاءت صفعة أخرى من بيت أبيه عندما فوجئ مؤتمر المتبرعين والأثرياء اليهود لإسرائيل بالرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي المعروف بأنه الصديق الأول والحليف لإسرائيل يهاجم بشدة سياسة حكومة نتنياهو ويطالب بممارسة الضغط عليها لإقامة دولة فلسطينية بعد أن حصرت نفسها ب"أسوار أريحا"، في إشارة إلى ما جاء في التوراة عن المدينة التي كانت مقفلة ومحاطة بالأسوار قبل أن تسقط. كل هذه المؤشرات تدفعنا الى الترقب وانتظار"الطبعة الثانية"من المواجهة بين أوباما ونتانياهو ومن ثم مصير الجهود الرامية للخروج من المأزق الذي جمد عملية السلام لأكثر من عقدين بسبب التعنت الإسرائيلي بخاصة أن المنطقة تعيش الآن على حافة بركان، والنار تحيط بها من كل جانب. وفي حال عدم تكاتف الجهود لإطفائها، فإنها ستأكل الأخضر واليابس وتهدد المصالح الأميركية، قبل العربية، بل وجميع المصالح الأجنبية ولن ينجو منها أحد. وتضاف إلى كل ذلك الأحداث الدامية في سورية والتوترات في دول عربية عدة ووصول الملف النووي الإيراني إلى نقطة الحسم في حال عدم التوصل إلى اتفاق ينهي هذه المواجهة ويشيع حالة الاطمئنان والأمن في المنطقة. وأخشى ما أخشاه أن يتحول نتانياهو إلى"شمشون"جديد يهدم الهيكل على نفسه وعلى الآخرين بشن حرب مفاجئة على إيران تعيد خلط الأوراق وتدفع إلى كارثة تطاول الجميع وتورط الولاياتالمتحدة في نزاع جديد قد يمتد سنوات طويلة. وإزاء كل هذه المعطيات يقف العرب في مقاعد المتفرجين كأن كل هذه الأمور لا تعنيهم مع أنهم سيكونون أول من يدفع الثمن غالياً من أرواحهم وممتلكاتهم وأمنهم واستقرارهم. والمطلوب الآن توحيد المواقف العربية ومد اليد للرئيس الأميركي وتشجيعه على المضي في طرح مبادرته للسلام ووقف النزيف الدامي في أرجاء الوطن العربي الكبير واستغلال جولة اوباما لتحريك مسيرة السلام. أما على الصعيد الفلسطيني، فإن الخطوات السريعة المطلوبة والملحّة تقضي بالمسارعة إلى تحقيق المصالحة وإنهاء حالة التشرذم والانقسام بين الضفة وغزة وبين"فتح"و"حماس"وإقامة حكومة وحدة وطنية من الشخصيات الحيادية المرموقة والمحترمة من الجميع لملاقاة الجهود المنتظرة ونزع ورقة الاختلاف من يد إسرائيل، بخاصة أن حركة"حماس"عادت إلى جادة الحياد ونأت بنفسها عن الصراعات الإقليمية والاستراتيجية الإيرانية. والأهم من كل ذلك هو تجنب القيام بأي عمل عنف أو إرهاب يعطي إسرائيل الذرائع للهروب من الاستحقاقات ويزود نتانياهو بأوكسيجين يعيد إليه التنفس وحرية الحركة. إنها استحقاقات مصيرية قادمة... فهل استعد لها العرب؟ * كاتب عربي